هجوم نيو أورليانز وتفجير لاس فيغاس، ما الدرس الذي على واشنطن أن تتعلّمه؟

د. جيرار ديب
قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إن "منفذ هجوم نيو أورليانز نشر (فيديو) قبل العملية يؤكد أنه استلهم هجومه من تنظيم داعش الإرهابي". هذا وكان شمس الدين جبار، المواطن الأميركي، من مواليد تكساس البالغ من العمر 42 عاماً، والذي خدم في الجيش الأميركي من عام 2007 حتى عام 2015 قد نفّذ جريمة دهس ليل الاحتفال برأس السنة في 31 كانون الأول (ديسمبر)، أدّت إلى مقتل 15 شخصاً وجرح العشرات، بعدما تمّ تحييده في عملية تبادل لإطلاق النار مع شرطة الولاية.
"تنظيم الدولة الإسلامية". هنا بيت القصيد في خطاب بايدن، وفي التقرير الذي أعلنت عنه السلطات التي ذكرت أن "منفذ الهجوم يتبنى أفكار تنظيم الدولة الإسلامية، وفقاً لفيديوهات نشرها الإرهابي على حسابه الشخصي قبل الهجوم بساعات"، بحسب ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية. فهل تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة إحياء هذا التنظيم بعدما "أفلست" في إيجاد "بعبع" تحاكي به مخاوف دول الشرق الأوسط لتبرّر تفعيل حضورها في سوريا؟
إن ما حصل في سوريا في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، والذي تمثّل في مشهدية سقوط نظام الطاغية بشار الأسد، ووصول هيئة تحرير الشام ومجموعة أخرى إلى الحكم، بدّل في الرؤية، وطرح الكثير من التساؤلات التي لا تتوقف عند شكل النظام المستقبلي للحكم في سوريا، ولا ينتهي عند شكل المنطقة أجمع، لا سيّما بعدما تراجع النفوذ الإيراني، على حساب النفوذ التركي.
أعاد بايدن تسليط الضوء على "الإرهاب الداعشي"، على الطريقة الأوبامية (نسبة إلى ملهمه الرئيس السابق باراك أوباما الذي دخل سوريا عام 2014 تحت ذريعة محاربة التنظيم)، مستشعراً أنّ ما حصل من مفاجأة في سوريا ومن سير الأحداث يكاد يطيح بمصالح بلاده في المنطقة، وأنّ إسرائيل باتت تتوجّس هي أيضاً من حقيقة وجود نظام إسلامي يؤمن بتحرير فلسطين على حدودها. لهذا سارعت، وبشكل هستيري، إلى شنّ المئات من الهجمات على المواقع والمصانع العسكرية خوفاً من أن تصل إلى يد الجماعات الحاكمة.
لا يحتاج المتابع ليدرك أن الواقع السوري أعاد خلط الأوراق من جديد، وأن المخاوف الإسرائيلية في مكانها، وقد ظهرت في توغّل جيشها في الجولان المحتلّ، وفي إصرار تل أبيب على التمسّك بورقة في سوريا والمتمثلة بـ"قسد"، قوات سوريا الديموقراطية. إذ صرّح وزير خارجيتها جدعون ساعير الذي أفصح، الجمعة 2 كانون الثاني (يناير) الجاري، عن إجرائه اتصالاً مع الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية الكردية، إلهام أحمد، ليؤكّد على حماية الحكم الذاتي.
تل أبيب كما واشنطن تحتاج لاستنساخ الرواية الأوبامية لإعادة التركيز على مفاصل الصراع الدائر في المنطقة، خصوصاً وأنه بات يصبّ لصالح أنقرة الداعمة للمسؤول عن إدارة الحكم الذاتي أحمد الشرع. إذ على حدّ اعتبارهما يستطيعان من خلال الحفاظ على الحكم الذاتي الكردي إبقاء ورقة ضغط أساسية في أيديهما يرفعانها بوجه أنقرة إن سارت الأمور بعكس مخططاتهما. لهذا، وجد البعض أن واشنطن تحتاج إلى هجوم نيو أورليانز لتأخذ تفويضاً جماهيرياً لتنشيط عملياتها في سوريا تحت ذريعة محاربة التنظيم.
بعيداً عن التحليلات الاستراتيجية في التقارير التي تناولت الجريمة، والخلفيات والنوايا، إلّا أنّ اللافت في الحادثة أنها أتت بعد إطلاق بايدن إستراتيجيته لمكافحة الإسلاموفوبيا والتي تهدف لردع جرائم الكراهية ضد المسلمين والعرب والحد من التمييز والتحيّز. كما وأن عنصر المفاجأة في الموضوع ترتبط بمرتكب الجريمة وهو مواطن أميركي وليس من المهاجرين، وكان جندياً سابقاً في الجيش الأميركي وحائزاً ميدالية الحرب على الإرهاب خلال خدمته من وزارة الدفاع الأميركية.
هذا ما يجب التوقّف عنده، ويجب وضع الإستراتيجيات لمعالجة الصدمات النفسية، من تأثير الحروب الخارجية التي يخوضها الجيش الأميركي. فحادثة شمس الدين ليلة رأس السنة الجديدة ليست الوحيدة، بل أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأنّ ماثيو ليفلسبرغر الجندي الأميركي الذي فجّر شاحنة "سايبرتراك" أمام فندق ترامب بمدينة لاس فيغاس، والذي أدّى إلى مقتل شخص وإصابة البعض بجروح، عانى بعد عودته من مهمّة في أفغانتسان من إرهاق نفسيّ شديد واعتبر حياته "جحيماً".
طبعاً "ماثيو" لا ينتمي إلى تنظيم الدولة وجريمته التي ارتكبها لا يستطيع السيد بايدن أن يستثمر فيها لفتح جبهات استعمارية جديدة، لكنّها جريمة تسلّط الضوء، كما جريمة شمس الدين، على مرحلة ما بعد حروب أميركا الخارجية، وعلى الجرائم التي من الممكن أن يرتكبها الجنود العائدون بنفسيات مدمرّة من حروب أوهموا بأنّهم يدافعون فيها عن مصالح بلادهم، ولكنّها في الواقع حروب لا تصنّف إلّا تحت ذريعة الهيمنة والسيطرة وسرقة الموارد وحرمان شعوبها الأصلية منها.
إنّ الاستراتيجية التي قام بايدن بطرحها مهمة، ولكنّها يجب أن تترافق مع أخرى ترتبط مباشرة بإجراء التعديلات على سياسات واشنطن الخارجية، وبتحديد علاقاتها مع الدول على أساس الاحترام والمساواة وليس الهيمنة والكراهية. فإن العبرة التي يجب أن تعتبر بها الإدارة الجديدة، هي حماية أمن البلاد من السياسات الاستعمارية الخارجية التي ينفذها جيشها، الذي يحتاج بعد عودته إلى مراكز تأهيل نفسي وجسدي. وإنّ طرح ترامب "أميركا أوّلاً"، قد يكون هو السياسة الأنجح لإعادة واشنطن إلى قراءة أزماتها الداخلية منها الجرائم المتكرّرة تحت عناوين مختلفة والتي تحصد الآلاف سنوياً.
ليس صحيحاً ما طرح في الصحف الأميركية بألّا علاقة بين الجريمة نيو أورليانز وجريمة لاس فيغاس كما ذكرت السلطات الأميركية. قد لا يكون هناك اتصال مباشر بين المجرمين، ولكنّ الأكيد هناك اتصال لأنّ المنفّذين مواطنان أميركيان، وجنديان سابقان في الجيش الأميركي. فهذا في حدّ ذاته دلالة على "الصلة" بين الجريمتين، حيث أنّ الصدمات النفسية والتوترات المعنوية للمشاركة في حروب طويلة خارج البلاد دلالة، لا تحتاج إلى دراسات لتؤكّد أنّ الجريمة ستزداد إن احتلّت أميركا سوريا أم العالم. لأنّ تأثير الصدامات بعد الحرب هي الأخطر على الأمن القومي الأميركيّ من أيّ "داعشي" أو غيره في العالم.