
مهند محمود شوقي
عندما قرأت المقارنة التي عقدها الأستاذ غسان شربل رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط"، في تغريدة له أمس قال فيها إن "سجن صيدنايا يعادل ألف حلبجة وحلبجة"، شعرت للحظات أن قدرتي على الرؤية قد بدأت تشيخ. وأحسست أن قوة خفية ترمي بي 20 عاماً إلى الوراء، لليوم الذي اطلعت فيه على كتابات الصحافي البريطاني ريتشارد بيستون، وهو السبّاق إلى فضح هجوم حلبجة الكيماوي في آذار (مارس) 1988 وعرض فظاعاته أمام العالم. وبيستين الذي غادرنا قبل الأوان في 2013 بعد صراع طويل مع المرض، تفيض كتاباته عن عمليات الإبادة تلك بالمعرفة والحكمة. إلّا أنها تتميز قبل كل شيء آخر بالإنسانية المتوهجة التي أججتها ترسانة صدام حسين من الأسلحة الكيماوية، فتقرأ ما يقوله عن ضحايا المجزرة "الغرباء" كما لو كانوا من أهله وإخوته أو جيرانه.
إبادة الإنسانية
وهنا مربط الفرس. حلبجة مأساتنا جميعاً. وضحاياه ضحايانا أينما كنا. قنابل صدام التي انهمرت على آلاف المدنيين العُزّل لم تكن تبغي قتل هؤلاء الأكراد الأبرياء فحسب، بل استهدفت إنسانيتنا جميعاً، وأرادت أن تبيد الإنسان فينا. لهذا وقف بيستون أمام هذه الوحشية واجماً، لهول الجريمة، التي أحس أن الكلمات تعجز عن تصويرها، ووحدها العاطفة الإنسانية تستطيع أن تصور بعض جوانبها. ولعلّه صرخ من الألم، بعدما شاهد ما شاهده، مناشداً العالم عدم السماح بتكرار مجزرة كتلك.
في المقابل، سجن صيدنايا الرهيب الذي أقامه الديكتاتور المخلوع بشار الأسد يحفل بصور مرعبة رأيناها مرّات ومرّات.. في الباستيل الفرنسي، والمعتقل الذي تدور فيه أحداث فيلم بابيلون الأميركي المدهش (1973) من بطولة ستيف ماكوين وداستن هوفمان، وفي أبو غريب والمزة وتدمر السوريين وغيرها كثير في السلفادور والبرازيل والهند..
للوحشية درجات
والحق أن للوحشية درجات. وبعض نماذجها، التي تجلّت في حلبجة، تكاد تكون بلا مثيل من حيث عدد الضحايا أو أداة الجريمة، وتذهب بعيداً في البشاعة حتى تبلغ منتهاها. فكم مرّة وجدنا أنفسنا أمام 5000 مسن وطفل وامرأة يموتون خنقاً بمواد أوقعت حوالي 10000 إصابة متفاوتة الشدّة، وسممت التراب والهواء؟ وأدّى ذلك إلى ارتفاع ملموس في معدل الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية في السنوات التي تلت الهجوم، بحسب النتائج الأولية لدراسات استقصائية أُجريت أخيراً في المنطقة المنكوبة.
وبعض الأنماط الأخرى، للأسف، تتكرّر هنا وهناك. هكذا رأينا بالأمس، ونرى اليوم، آلاف الأبرياء يجري الزجّ بهم أحياء في "مقابر" يسمّونها خطأً معتقلات. صحيح أن صيدنايا هو "معسكر الموت" الذي كان من يدخله مستعداً لدفع حياته ثمناً للبقاء بعيداً عنه، وحكاية لا تنتهي عن مدى قسوة الإنسان على أخيه الإنسان. لكن عاد منه الكثير من الرجال والنساء الأصحاء الذين قاوموا الجلاد بصدورهم العارية وهزموه في نهاية المطاف. هو فرّ تحت جنح الظلام إلى منفاه البارد الذي قد لا يساعده في الإفلات من العقاب العادل، فيما خرج ضحاياه إلى الضوء وباتوا يتذوقون من جديد دفء الحرّية والحياة.
أما حلبجة، فلم يبق فيها بعد الهجوم مباشرة سوى أجساد ملتوية غادرتها الروح، وقلة من الناجين الذين تذكّروا أن رائحة التفاح ملأت أنوفهم قبل أن يحصد الموت هذا العدد من الأبرياء! وبقي أيضاً الفضاء الملوث الذي ينتج المزيد من الضحايا. لكن لم يطل الزمن حتى أخذت تداعيات الفاجعة تتبلور على نحو مختلف. فقد نفض الشعب الكردي عنه غبار الماضي وراح يحارب الموت بالحياة ويبني مجتمعه المتقدم، إذ أدرك أن العمل الدؤوب والعيش الآمن والإيمان بالإنسان هي التي تحصّنه من مواجع جديدة.
"ثمار" حلبجة
من السابق لأوانه الحديث عن النتائج التي سيتمخض عنها صيدنايا بعدما فُتحت أبوابه وبدّدت الشمس سواده الداكن إلى الأبد، فالبلاد لا تزال في مرحلة المخاض لفجر جديد لم يولد بعد. إلّا أن الأمل معقود على قادتها الحاليين أن يكفكفوا الدموع ويداووا الجراح ويمضوا بالسوريين إلى الحكم الجماعي والغد الأفضل. وإذ رحّب مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني رئيس كردستان السابق، بتصريح أحمد الشرع القائد العام للإدارة الجديدة، أن الكرد جزء لا يتجزأ من الوطن وشركاء في مستقبله، فقد اعتبر أنه "يجب على الكورد والعرب وجميع مكونات سوريا الأخرى اغتنام هذه الفرصة للمشاركة معاً في بناء سوريا مستقرة وحرّة وديموقراطية".
في غضون ذلك، نضُجت "ثمار" حلبجة. فقد كانت مفتاحاً لمسيرة البناء والإنجازات التي بدأت حين أبصر النور إقليم كوردستان، وتمضي حالياً من نجاح إلى نجاح في ظل رئيس وزرائه مسرور بارزاني. والتحق الزعيم نفسه بالبيشمركة لقتال قوات صدام في ثمانينات القرن الماضي إلى جانب أبناء الإقليم الذين شحذت حلبجة عزيمتهم فهبّوا يدافعون ببسالة عن كردستان كلما قرع الخطر أبوابه في مناسبات كانت آخرها المواجهات التي بدأت مع "داعش" في 2014. وقد صقل هذا النضال في إطار التحالف الدولي ضدّ "داعش"، الذي كان مسرور بارزاني من أبرز قادته، قدرات البيشمركة المتحفزة أبداً لحماية كوردستان بفضل روح التضحية التي زرعتها حلبجة في قلوبهم.
في المحصلة، هناك من لقي مصرعه أو بات "معطوباً" إلى الأبد بين سجناء صيدنايا بسبب المعاملة الفظيعة على أيدي رجال بشار. لكن، شتّان بين التعذيب الوحشي والإبادة الممنهجة التي تختلف عنه اختلاف الليل والنهار!