النهار

لبنان بين الوطن والساحة: جدلية الانتماء ومسؤولية البناء
المصدر: النهار
لبنان اليوم يقف عند مفترق طرق: هل يبقى ساحة تُستهلك فيها طاقات أبنائه، أم يتحول إلى وطن يضمن الكرامة والعيش الكريم للجميع؟
لبنان بين الوطن والساحة: جدلية الانتماء ومسؤولية البناء
هل يمكن للبنان أن يكون وطناً يجمع أبناءه حول مشروع وطني مشترك؟ (أ ف ب)
A+   A-

النائب عماد الحوت

 

لطالما كان لبنان، بطبيعته الجغرافية والتاريخية، مكاناً للعيش المشترك والتفاعل الثقافي، إلا أنه، وهو الذي يُفترض أن يكون وطناً جامعاً لأبنائه، يبدو اليوم أقرب إلى "ساحة" تتنازع فيها المصالح المحلية والخارجية في ظل انقسام داخلي عميق، ما يثير تساؤلات حول مسؤولية اللبنانيين في إعادة تعريف علاقتهم بوطنهم. 

ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان وغزة، يتجدد النقاش حول: هل يمكن للبنان أن يكون وطناً يجمع أبناءه حول مشروع وطني مشترك بتوافقٍ داخلي، أم يظل ساحةً لصراعات المحاور التي تستهلك طاقاته؟

لبنان الوطن

الوطن ليس مجرد قطعة أرض أو جغرافيا محددة، بل هو شعور بالانتماء والمشاركة في بناء مستقبل مشترك، حيث يعيش الإنسان بكرامة، وتتكامل الحقوق مع الواجبات. حب الوطن لا يقتصر على العاطفة أو الغريزة، بل يرتبط بمسؤولية الأفراد تجاه مجتمعهم.

عندما يُعتبر لبنان وطناً، يصبح الجميع شركاء في نجاحه أو فشله، وتتحوّل المواطنة إلى علاقة ديناميكية بين الفرد والدولة، حيث يُقدّم الفرد جهده ومهاراته ويتحمل مسؤوليته في بناء مؤسسات الدولة والحفاظ عليها مقابل الحقوق التي تمنحها له.

وعندما يعتبر لبنان وطناً، يصبح مساحةً تجمع جميع مكوناته على أساس رؤية وطنية تتجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية، وتقوم على توحيد الهوية الوطنية، والمحاسبة الحقيقية الشفافة من خلال القانون والمساءلة، والسياسة الخارجية المستقلة فلا يكون منحازاً لأي محور بل يسعى إلى حماية مصالحه الوطنية.

وعندما يعتبر لبنان وطناً، تتقدّم أولويات بناء دولة المواطنة، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية مؤسسات الدولة، والنهوض بالاقتصاد الوطني، وتحييد لبنان عن المحاور الإقليمية والدولية، وتعزيز العلاقات العربية والدولية بما يخدم مصالح البلد، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي والتكامل الاقتصادي والإنمائي.
وعندما يُعتبر لبنان وطناً، تُصبح مقاومة العدوان الإسرائيلي مسألة تجمع ولا تفرّق، فلا يعود الوطن مجرد جغرافيا تُدافع عنها الجيوش، بل فكرة يتكاتف الشعب حولها، قائمة على الكرامة والسيادة ورفض الخضوع لأي احتلال أو تدخل خارجي، وعلى مواجهة العدوان الإسرائيلي والدفاع عن حقوق لبنان البرية والبحرية.

وعندما يُعتبر لبنان وطناً، فإن التعاطي مع القضية الفلسطينية والعدوان على غزة يتسم بنظرة وطنية وإنسانية متكاملة، فيتم دعم القضية الفلسطينية كقضية عادلة تتصل بالدفاع عن القيم الإنسانية والعدالة وحقوق الشعوب في التحرّر من الاحتلال، ورفض العدوان الإسرائيلي على غزة كونه جزءاً من تهديد أوسع يطال المنطقة بأسرها.

لبنان الساحة

الساحة تمثّل مكاناً للصراعات والتنافسات، حيث تفقد القيم المشتركة قيمتها أمام المصالح الفردية أو الفئوية أو الخارجية، ويصبح الانتماء مرهوناً بالمكاسب. ولبنان يعاني منذ عقود من تحوّل تدريجي من كونه وطناً إلى مجرد ساحة تُستخدم لتصفية الحسابات الداخلية والخارجية. الطائفية المتجذرة، وضعف الدولة، والتدخلات الإقليمية والدولية جعلت من لبنان ساحة مفتوحة للصراعات السياسية والمذهبية، حيث تتعامل القوى السياسية مع البلد كغنيمة تُقسّم، دون اعتبار لتداعيات ذلك على الشعب الذي فقد الإيمان بقدرة الدولة على توفير حياة كريمة، وعلى تحوّل لبنان إلى ساحة بدلاً من أن يكون وطناً يتفق الجميع على حمايته وبنائه.

وعندما يُنظر إلى لبنان كساحة، تتقدّم أولويات إضعاف مؤسسات الدولة للهيمنة على قرارها، وتعميق الانقسامات الطائفية والسياسية لاستمرار التجييش، وإبقاء الاقتصاد في حالة تبعية للضغط على القرار اللبناني، وإدامة ضعف الجيش والقوى الأمنية، ويتم استخدام لبنان كمنصة للصراعات الإقليمية والدولية وتحويله إلى ورقة تفاوضية، وتغذية الأزمات السياسية كلما ظهرت بوادر توافق داخلي.

وعندما يُنظر إلى لبنان كساحة، يعيش البلد انقساماً داخلياً حاداً واستقطاباً بين محاور متناقضة، وينتج تخويناً متبادلاً وتقاذفاً للمسؤوليات يعمّق الانقسامات الداخلية ويضعف فرص بناء توافق وطني، ويُلهي اللبنانيين عن قضايا أساسية مثل الإصلاح الاقتصادي والسياسي.

وعندما يُنظر إلى لبنان كساحة، تتحول القضية الفلسطينية إلى ملف يُستخدم في الصراعات الداخلية والخارجية، وانقسام داخلي بين القوى السياسية اللبنانية التي تستخدمها لتعزيز مواقعها بدلاً من توحيد الرؤية الوطنية، وتبرير تدخلات خارجية في الشأن اللبناني، سواء لدعم طرف على حساب آخر أو لزعزعة الاستقرار.

إن من نتائج النظرة إلى لبنان كساحة، حالة من الفوضى المستمرة وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، تفكك الهوية الوطنية لحساب الانتماءات الطائفية والسياسية، غياب الثقة بين الأفراد والدولة، فقدان السيادة الوطنية والخضوع للقرارات الإقليمية والدولية، وتصعيد الأزمات بدلاً من حلها.
بين الوطن والساحة: كيف يمكن الخروج من الأزمة؟

لحل الصراع بين أصحاب النظريتين الوطن أو الساحة في لبنان، يجب معالجة شاملة للجذور الداخلية والخارجية للصراع بطريقة تضمن استقرار لبنان وتُعيد بناء مؤسساته وتحافظ على سيادته الوطنية، بما يحقق مصلحة جميع اللبنانيين، ويعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة التي أثبتت بنيتها الطائفية والزبائنية فشلها في إدارة شؤون البلاد.
إن الانتقال من الساحة إلى الوطن يتطلّب بناء إجماع وطني على أن الدفاع عن سيادة لبنان وأرضه هو مسؤولية وطنية يجب ألا تكون نقطة خلاف أو تصفية حسابات سياسية، وتعزيز دور الدولة في حماية مواطنيها وبسط سيادتها على كامل أراضيها، وتجنب الارتهان للخارج أو التحول إلى ساحة تستخدمها القوى الخارجية لتحقيق مصالحها، وتعميق الوعي الوطني وتعزيز الهوية الجامعة.

يتطلّب هذا الانتقال تعزيز ثقافة الحوار كبديل عن الاتهامات المتبادلة والانقسامات، إصلاح النظام السياسي وبناء دولة مدنية تضمن المساواة لجميع المواطنين، وإصلاح المؤسسات ودولة القانون التي تضمن العدالة والمساواة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله وتحقيق الشفافية واستقلالية القضاء واستعادة ثقة المواطن بالدولة، وتعزيز الهوية الوطنية والشعور بالانتماء الوطني بعيداً من الانقسامات الطائفية والمذهبية، وإطلاق رؤية تنموية ومشاريع اقتصادية شاملة، وسياسة خارجية ترعى مصلحة لبنان وعدم الانحياز إلى أي معسكر إقليمي أو دولي وإقامة علاقات متوازنة إقليمية ودولية، مع تفعيل علاقته بعمقه العربي.

الاستراتيجية الدفاعية للدولة اللبنانية

كانت الجماعة الإسلامية أول من دعا في أيلول (سبتمبر) 2006 إلى إقرار استراتيجية دفاعية للدولة اللبنانية لتكون صاحبة القرار في مواجهة العدو الإسرائيلي. واشتملت الاستراتيجية التي طرحتها الجماعة للنقاش مجموعة من العناوين أهمها بناء الوعي بخطر الكيان الصهيوني المحتل والتوسعي وحق لبنان في تحرير أرضه، تطوير قدارت الجيش على حماية وضبط الحدود وتحييده عن التجاذبات الداخلية، توظيف خبرات وقدرات المقاومات اللبنانية المختلفة وبناء صيغة توازن رعب مع العدو الصهيوني، بناء مجتمع مستقر ومزدهر قادر على مواكبة الاستراتيجية الدفاعية، منع استخدام السلاح في الداخل اللبناني، وبناء عقيدة الأجهزة الأمنية على أساس خدمة واحترام المواطن. ولا بدّ أن تعزز هذه الاستراتيجية تحركات ديبلوماسية لإبراز الجرائم الإسرائيلية ضد لبنان وشعبه، وكسب الدعم الدولي لحقوق لبنان، والمطالبة بتطبيق القرارات الدولية التي تصب في مصلحة لبنان.

...مرّ لبنان بمراحل كان فيها أقرب إلى الوطن، وأخرى غرق فيها كساحة للصراعات والمواقف المتناقضة بين الأطراف الداخلية، وارتباط جزءٍ منها بمشاريع خارجية ومراهنات جزء آخر عليها، ما سهّل جعل البلاد رهينة لعبة الأمم. ولبنان اليوم يقف عند مفترق طرق: هل يبقى ساحة تُستهلك فيها طاقات أبنائه، أم يتحول إلى وطن يضمن الكرامة والعيش الكريم للجميع؟ لا يكمن الجواب في إصلاح الدولة فقط، بل في قرار كل لبناني بأن يناضل من أجل بناء وطن للجميع، وعدم الاكتفاء بدور المراقب في ساحة لا رابح فيها.

والحروب الإسرائيلية على لبنان تكشف الفارق بين الوطن والساحة. فالوطن هو الذي يتوحد أبناؤه للدفاع عنه ويتعامل مع خطر العدو الإسرائيلي عليه برؤية متماسكة ومسؤولة، بينما الساحة هي التي تُستخدم لتحقيق أجندات الآخرين وتتنازعها المصالح الفئوية والخارجية. الخيار بينهما ليس مجرد قرار سياسي، بل هو خيار وجودي يحدد مصير لبنان ومستقبله.

إذا استطاع لبنان نشر ثقافة الحوار بدلاً من تبادل الاتهامات، وإصلاح نظامه السياسي، وتعزيز استقلاله الاقتصادي، ووضع استراتيجية دفاعية للدولة اللبنانية، فإنه سيُؤسس لدولة يمكنها أن تكون وطناً حقيقياً لجميع أبنائه. المطلوب اليوم أن تستفيد القوى اللبنانية من دروس الماضي، وتبني مشروعاً وطنياً جامعاً يعيد للبنان دوره الطبيعي كدولة مستقلة قادرة على حماية شعبها ومقدراتها بعيداً عن المحاور، وهذا هو التحدي الأكبر.

اقرأ في النهار Premium