ميلاد يسوع… ولبنان بين منطق الحياة ومنطق الموت

مقالات 26-12-2025 | 13:33

ميلاد يسوع… ولبنان بين منطق الحياة ومنطق الموت

لبنان اليوم ليس في أزمة إدارة أو اقتصاد فقط، بل في أزمة خيار. خيار بين دولة تُبنى على الحرية والسيادة والقانون، وبين كيان معلّق يعيش على فائض السلاح وثقافة الحرب الدائمة.
ميلاد يسوع… ولبنان  بين منطق الحياة ومنطق الموت
كنيسة تعرضت لقصف إسرائيلي في بلدة بارون الحدودية.(أف ب)
Smaller Bigger

الخوري ريمون أبي تامر


ليس الميلاد المسيحي احتفالًا فولكلوريًا، ولا محطة وجدانية موسمية، ولا لحظة هروب من قسوة الواقع. ميلاد يسوع هو حدث سياسي بامتياز، لأنه منذ لحظته الأولى واجه منطق الإمبراطورية، وفضح كذبة القوة، وعرّى عنف الدولة حين تنفصل عن الإنسان. يسوع لم يولد في الفراغ، بل في عالم محكوم بالاحتلال، بالخوف، وبالسلاح. وُلد في زمن أوغسطس، في ظل روما، حيث السلام يُفرض بالقوة، والسيادة تُقاس بعدد الفيالق. في هذا السياق بالذات، يولد الطفل. لا ليصالح العنف، بل ليُدينه. لا ليبارك القوة، بل ليقلب معناها. وهنا يبدأ السؤال اللبناني.

أولًا: الميلاد كإدانة مباشرة لمنطق الحرب
حين نقرأ الميلاد خارج بُعده السياسي، نكون قد أفرغناه من جوهره. يسوع لم يولد بعيدًا عن السلطة، بل في مواجهتها الصامتة. خاف هيرودس من طفل، لأن الطفل حمل تهديدًا وجوديًا لكل نظام يقوم على العنف. وهنا، لا يمكن للبنان أن يتهرّب من المقارنة. لبنان اليوم تحكمه ذهنية تعتبر الحرب قدرًا، والسلاح هوية، والعنف لغة شرعية. ذهنية ترى أن الوطن لا يُبنى إلا في حالة استنفار دائم، وأن السلام ترف، وأن الدولة خطر. الميلاد يقول عكس ذلك تمامًا: الحرب ليست قدرًا، بل فشلًا أخلاقيًا. والسلاح خارج الدولة ليس حماية، بل نفي للوطن. والعنف، مهما تزيّن بالشعارات، يبقى عنفًا. لبنان الذي يبرّر الحرب الدائمة، هو لبنان يرفض الميلاد، ويرفض الدخول في زمن الحياة.

 

 

 

ثانيًا: يسوع والحرية… فضيحة الأنظمة المغلقة
يسوع لم يؤسّس دولة، لكنه أسّس مفهومًا جديدًا للإنسان. إنسان حر، مسؤول، غير خاضع للخوف.
ولهذا كان خطرًا على كل نظام لا يعيش إلا على الطاعة العمياء. في منطق الإنجيل، لا خلاص بلا حرية.ولا إيمان بلا اختيار. ولا كرامة بلا مسؤولية.
وهنا تكمن المأساة اللبنانية:
الحرية التي وُلد من أجلها لبنان، تُحاصَر اليوم باسم الأمن، وباسم المقاومة، وباسم القضايا الكبرى.
كل خطاب سياسي يبرّر مصادرة حرية اللبناني، هو خطاب مناهض للإسنان ، مهما تلطّى خلف الرموز الدينية. لبنان لم يُخلق ليكون دولة الخوف، بل دولة الجرأة.ولم يُبنَ ليكون تابعًا،بل شاهدًا. يسوع لم يساوم على الحرية،ولبنان لا يولد من جديد إلا إذا استعادها كاملة، غير مجتزأة، وغير مشروطة.

ثالثًا: السيادة… من مفهوم عسكري إلى التزام أخلاقي

السيادة، في معناها العميق، ليست مسألة حدود فقط، بل مسألة قرار. أن يكون القرار الوطني حرًا، وأن تكون الدولة المرجعية الوحيدة، وأن يكون السلاح خاضعًا للقانون، لا العكس. كل ما عدا ذلك هو تفريغ للسيادة من معناها.الميلاد يعلّمنا أن السيادة الحقيقية لا تقوم على القمع، بل على الشرعية الأخلاقية. يسوع لم يملك جيشًا، لكنه امتلك الحقيقة. وهيرودس امتلك السيف، لكنه خاف. لبنان اليوم يعاني من سيادة معلّقة، سيادة مؤجّلة، سيادة تفاوضية.وهذا أخطر ما يمكن أن يصيب وطنًا.لأن الوطن الذي لا يملك قراره، لا يملك 
مستقبله.


رابعًا: منطق الحياة ضد ثقافة الشهادة العبثية

في المسيحية، الحياة مقدّسة. ليست وسيلة، ولا وقودًا، ولا رقمًا. أما حين تُختزل الشهادة بالموت، وتُفصل عن مشروع الحياة، تتحوّل إلى أداة أيديولوجية، لا قيمة خلاصية لها. لبنان اليوم غارق في ثقافة تمجّد الموت أكثر مما تحمي الحياة. ثقافة تبرّر الدمار، وتطلب من الناس أن يصمتوا باسم القضية. يسوع لم يطلب من أحد أن يموت من أجل الموت، بل أن يعيش من أجل الحق.
منطق الحياة يعني:

دولة لا ميليشيا

قانون لا استثناء

عدالة لا ثأر

وطن لا ساحة


خامسًا: ماذا يحتاج لبنان ليولد من جديد؟

لبنان لا يحتاج معجزة. يحتاج شجاعة. شجاعة الاعتراف بأن الحرب لم تعد تحمينا. وأن السلاح لم يعد يبني دولة. وأن العنف لم يعد يصنع مستقبلًا.
لبنان يحتاج: قطيعة أخلاقية مع منطق الحرب الدائمة إعادة تعريف الوطنية خارج الاصطفافات نخب فكرية تقول الحقيقة بلا خوف إيمانًا بأن السلام ليس ضعفًا بل خيار سيادي كما أن الميلاد لم يكن بلا ألم، ولادة لبنان لن تكون بلا ثمن.


ميلاد يسوع ليس طقسًا دينيًا ولا مساحة حياد وحسب، إنه فعل تمرّد على كل نظام يقوم على الخوف، وعلى كل سياسة تتغذّى من العنف، وعلى كل سلطة تبرّر نفسها بالموت. من يفرغ الميلاد من بعده السياسي، يفرغه من معناه، ويحوّله إلى زينة موسمية لا تهدّد أحدًا.
لبنان اليوم ليس في أزمة إدارة أو اقتصاد فقط، بل في أزمة خيار. خيار بين دولة تُبنى على الحرية والسيادة والقانون، وبين كيان معلّق يعيش على فائض السلاح وثقافة الحرب الدائمة. كل محاولة للالتفاف على هذا الخيار، أو تأجيله، أو تمييعه، هي مشاركة مباشرة في الانهيار. لا يولد لبنان من جديد بالمساكنة مع العنف، ولا بالسكوت عنه، ولا بتبريره. يولد فقط حين يُستعاد القرار الوطني كاملًا، وحين تُعاد الدولة إلى موقعها الطبيعي، وحين يُقال بوضوح إن منطق الحرب لم يعد قدرًا ولا بطولة، بل عبئًا وجوديًا على الوطن. الميلاد، في جوهره، إعلان أن الحياة أقوى من الموت، وأن الحرية أقوى من السلاح، وأن السيادة لا تُستعار ولا تُجزّأ. ولبنان، إن لم يجرؤ على هذا الإعلان، سيبقى بلدًا مؤجَّلًا، يعيش على ذكرى وطن كان ممكنًا ولم يولد. الميلاد خيار ثوري،وكذلك خلاص لبنان.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
المشرق-العربي 12/25/2025 12:34:00 PM
الداخلية السورية: العملية تأتي تأكيداً على فاعلية التنسيق المشترك بين الجهات الأمنية الوطنية والشركاء الدوليين
المشرق-العربي 12/25/2025 1:41:00 PM
العلاقات السورية - الإسرائيلية معقدة، ولم يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاقية أمنية رغم المساعي الديبلوماسية.