حين تُدمي حرب السودان ضمير العالم
في جلسة إحاطة عقدها مجلس الأمن الدولي حول السودان، الاثنين الماضي، بدا المشهد أقرب إلى مرآة تعكس فشل الضمير العالمي في كبح واحدة من أكثر الحروب مأسوية ووحشية في القرن الحادي والعشرين.
كلمات الدبلوماسيين كانت ثقيلة بالتحذير، مشحونة بالقلق، لكنها في جوهرها حملت اعترافاً ضمنياً بأن الحرب في السودان لم تعد شأناً داخلياً، بل جرحاً مفتوحاً في الجسد الإقليمي والدولي، يهدد بالاتساع ما لم يُسارع إلى وقفه.
منذ منتصف نيسان/أبريل 2023، انزلقت البلاد إلى دوامة عنف لا قرار لها، حيث يتقاسم الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مسؤولية مشهد دموي تتصدره معاناة المدنيين. لم تعد خطوط التماس واضحة، ولا الجبهات محددة، بل باتت المدن والأحياء والأسواق أهدافاً مكشوفة، تسقط عليها غارات الطائرات المسيّرة بلا تمييز، وتتحول فيها البيوت إلى قبور مؤقتة لأحلام الناس البسطاء. في هذا السياق، لم يكن وصف ما يجري بـ”الفظائع” مبالغة لغوية، بل توصيفاً دقيقاً لواقع تُداس فيه القيم الإنسانية تحت أقدام السلاح.
تحذيرات المسؤولين الأمميين من دخول الحرب مرحلة أكثر دموية ليست نبوءات تشاؤمية، بل قراءة واقعية لمسار صراع يتعقد يوماً بعد يوم. فالتطورات الميدانية المتسارعة تعكس تشابكاً متزايداً في المصالح، وتداخلاً إقليمياً ينذر بأن السودان قد يتحول إلى ساحة صراع أوسع، تُستدعى إليها حسابات الجوار، وتُصفّى فيها نزاعات مؤجلة. حينها، لن يكون اللهيب محصوراً داخل الحدود السودانية، بل سيمتد ليحرق استقرار منطقة بأكملها.
الأخطر من ذلك أن المدنيين، الذين يفترض أن يكونوا خارج معادلة الحرب، أصبحوا وقودها الأساسي. ملايين النازحين، مدن بلا ماء أو كهرباء، مستشفيات مدمرة، وطرق إمداد إنساني مقطوعة. كل يوم يمر، كما قال أحد المسؤولين الأمميين، يأتي بمستويات مروعة من العنف والدمار، ومعاناة لا يمكن تصورها.
إنها مأساة تتجاوز لغة الأرقام، وتستدعي مساءلة أخلاقية قبل أن تكون سياسية.
السفير البريطاني، الذي وصف ما ارتكبته أطراف القتال بأنه “يُدمي ضمير العالم”، يسلط الضوء على حقيقة باتت واضحة: لا يمكن للمجتمع الدولي أن يكتفي بدور الشاهد. فالإدانة، مهما بلغت حدتها، تظل ناقصة ما لم تُترجم إلى ضغط فعلي لوقف إراقة الدماء، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، ودفع الأطراف نحو مسار سياسي جاد.
إن خطة طريق المجموعة الرباعية، التي جرى التأكيد عليها في جلسة مجلس الأمن، تمثل إطاراً يمكن البناء عليه، لكنها تظل حبراً على ورق إن لم تقترن بإرادة تنفيذية صارمة.
السودان اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم: إما الانزلاق إلى هاوية حرب مفتوحة بلا أفق، أو اغتنام فرصة أخيرة لالتقاط أنفاس السلام. الطريق إلى ذلك يبدأ بوقف فوري للحرب، وتنفيذ هدنة إنسانية حقيقية تتيح إيصال المساعدات دون عوائق، وتحمي المدنيين من آلة القتل العمياء. ثم لا بد من إطلاق عملية سياسية شاملة تعيد للسودانيين حقهم في تقرير مصيرهم بعيداً عن فوهات البنادق.
إن المطالبة بوقف الحرب أصبحت ضرورة وجودية، والسلام في البلاد لن يكون منحة من الخارج، لكنه يحتاج إلى دعم دولي صادق، وإلى ضغط لا يلين على أطراف الصراع كي يدركوا أن استمرار الحرب لن يفضي إلا إلى خراب شامل.
لقد آن الأوان أن ينتصر صوت الحياة على ضجيج السلاح، وأن تُفتح نافذة أمل في جدار العتمة، قبل أن يغرق السودان، ومعه المنطقة، في ليل أطول وأقسى.
نبض