واشنطن تُغري الرياض.. والمملكة تُعيد تعريف قواعد اللعبة
ستّ مقاتلات من طراز F-16 وF-35 حلقت فوق البيت الأبيض، شقت سماء واشنطن في عرض جوي ليس معتادا في استقبال الزعماء. كان ذلك المشهد وحده كافياً ليقول إن الزيارة ليست بروتوكولاً بل حدثاً سياسياً مكتمل الأبعاد. وفي الأسفل، كان موكب الاستقبال يمتطي فرسانه خيولاً، حاملين الأعلام الأميركية والسعودية، في لوحة تجمع بين رمزية القوة العسكرية وأناقة الطقوس الدبلوماسية. وعلى وقع خطواتهم، تقدمت الفرقة الموسيقية العسكرية، بينما تزيّنت حدائق البيت الأبيض بأعلام البلدين، باصطفاف يشهد على لحظة تتجاوز المجاملة إلى إعلان مرحلة جديدة.
هذا الاستقبال لم يكن عابراً، بل حمل جانباً احتفالياً احتفائياً واضحاً، دلّ على رغبة أميركية في إظهار مكانة الضيف ومتانة العلاقة. لقد بدا وكأن واشنطن تعيد اكتشاف شريكها التاريخي، وتضع على الطاولة لغة غير مسبوقة في التعبير عن الاحترام السياسي الذي لم تعتد عليه الإدارة.

ومن هذا المدخل الاحتفائي، انتقلت الزيارة إلى عمقها الأكثر رسمية: الاتفاقيات الجانبية التي عُقدت للمرة الأولى، والتي أظهرت توجها أميركيا واضحا نحو تعزيز الربط الاستراتيجي مع الرياض على الأمد الطويل. تصريح الرئيس الأميركي بأن السعودية “حليف رئيسي غير عضو في الناتو” كان الذروة السياسية لهذا الاتجاه. فهو شبه ضمانة لديمومة التعاون الأمني والعسكري، وتأكيد لرغبة واشنطن في تثبيت العلاقة ضمن إطار مؤسسي لا يخضع لتقلبات السياسة اليومية.
ولم تتوقف الزيارة عند حدود التصريحات، بل امتلأت على مدى يومين بوابل من الاتفاقيات والمعاهدات والصفقات التي تشي بمشهد مختلف. فالموافقة الرئاسية على بيع مقاتلات F-35 إلى السعودية لم تكن مجرد صفقة عسكرية، بل تحولا سياسيا يتجاوز حدود واشنطن ليصل إلى تل أبيب التي وجدت نفسها أمام سؤال حساس: هل ستقبل تل أبيب بامتلاك دولة عربية محورية لقدرات جوية من الجيل الخامس قد تعيد ترتيب ميزان التفوق العسكري؟ وإن كانت هذه الخطوة تُقرأ ضمن سياق “المرور عبر اتفاقيات أبراهام”، فإنها فتحت نافذة واسعة على نقاشات إقليمية معقدة.
لكن المخاوف الإسرائيلية من السعودية لا تتوقف عند حدود صفقة الـF-35 ولا عند سؤال التفوق العسكري وحده. فالتهديد بالنسبة لتل أبيب لا يكمن فقط في مقاتلة شبحية تضاف إلى سلاح الجو السعودي، بل في ما هو أعمق: فحين تُصر المملكة على أنّ حل الدولتين لم يعد خيارا نظريا بل واجبا سياسيا، فهي بذلك تعيد تعريف قواعد التطبيع وهيكلتها. لم تعد الرياض تكتفي بإشارات دبلوماسية أو رسائل مفتوحة، بل تربط أي مسار إقليمي بإنهاء المأساة الفلسطينية بصورة فعلية، فعودة القضية الفلسطينية إلى قلب المعادلة الدولية عبر بوابة سعودية كابوس إسرائيلي، فالأخيرة تدرك أن السعودية، بحجمها وثقلها وعمقها السياسي والديني قادرة على إعادة طرح القضية بأدوات جديدة لا بالشعارات بل بالمصالح، لا بالبيانات بل بالاشتراطات، وبآفاق تفاوضية يعرف الجميع أنها ستضع تل أبيب أمام استحقاقات كانت قادرة على تأجيلها في الماضي لكنها لم تعد كذلك اليوم.
ومع ذلك، فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن كل إنجاز في واشنطن يبقى رهيناً لمنظومة سياسية وتشريعية متشابكة. تمرير بيع F-35 و300 دبابة Abrams لن يكون استثناء، إذ ينتظر الصفقتين مسار طويل في الكونغرس، ولجان مراقبة، ومراجعات قد تمتد شهورا، وتبلغ سنوات إن لم تشهد محاولات للمناورة أو لإعادة التقييم. فالصفقات الأميركية لطالما امتزج فيها التكريم بالحذر، والتقارب بالتفاوض، والوعود بإعادة الصياغة.
ومع ذلك، فإن الصورة الكاملة للزيارة تتجاوز هذه التفاصيل الإجرائية. لقد حملت الزيارة أبعادا استراتيجية واقتصادية وسياسية تُعيد رسم موقع المملكة داخل المشهد الدولي. فهي لا تؤسس فقط لمرحلة جديدة في علاقة الرياض بواشنطن، بل تشير إلى انتقال نوعي في الدور السعودي إقليميا وعالميا، وإلى شراكة تتجه نحو عمق أكبر ووضوح أشد.
إنها زيارة تؤرخ لعهد مختلف؛ عهد تخرج فيه المملكة من إطار الشراكات التقليدية إلى شراكات الندية والتأثير، وتعلن فيه واشنطن أنها ترى في الرياض شريكاً لا يمكن تجاوزه في ملفات الدفاع والطاقة والتوازنات الإقليمية. زيارة تحمل رسائل للداخل السعودي عن الثقة بالنفس وصعود الدور، وللخارج عن مستقبل علاقة تتسع باتساع مصالح البلدين ورهاناتهما المشتركة.
نبض