أنور السادات وكانط: رجل وحيد في مواجهة التاريخ
الخوري ريمون أبي تامر
السياسة في منطقتنا غالباً ما تُروى كملحمة دماء: حروب لا تنتهي، جيوش تتحرك، وخرائط يُعاد رسمها بحدّ السيف. لكن في خريف عام 1977، ظهر مشهد بدا كأنه خارج النص المألوف. رئيس مصري يخرج من صخب المعارك، يمتطي الطائرة لا ليتجه إلى ساحة حرب، بل إلى قلب عاصمة العدو. أنور السادات وهو يدخل الى اسرائيل لم يكن مجرد رئيس دولة؛ كان رجلاً وحيداً يواجه التاريخ، يكتب سطوراً غير مسبوقة بالجرأة، تماماً كما تخيّل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في حلمه عن "السلام الدائم".
كانط: الفيلسوف الذي حلم بعالم آخر
كانط، فيلسوف القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم يكتفِ بطرح أسئلة عن الأخلاق الفردية، بل تخطّاها نحو سؤال أكبر: كيف يمكن للبشرية أن تنجو من دوامة الحروب؟ في نصه الشهير نحو السلام الدائم، صاغ ميثاقاً فكرياً لا يزال حياً: إلغاء الجيوش الدائمة، احترام سيادة الشعوب، وبناء نظام عالمي قائم على القانون لا على القوة. بالنسبة له، السياسة التي تنفصل عن الأخلاق هي طريق قصير نحو الهاوية. بدا كلامه في زمنه ضرباً من المثالية الحالمة، لكن أفكاره بقيت كجمرٍ تحت الرماد، تنتظر لحظة من يجرؤ على اختبارها.

السادات: لحظة انكسار المستحيل
حين أعلن السادات أنه سيزور القدس، ظن كثيرون أن الرجل فقد صوابه. كيف يقف قائد عربي في برلمان إسرائيل، ويعلن استعداده للسلام؟ لكن تلك اللحظة كانت أشبه بزلزال. بجرأة غير مسبوقة، انتقل من لغة السلاح إلى لغة الكلمة، من منطق الدم إلى منطق الحوار. لم يكن السلام بالنسبة له ضعفاً أو استسلاماً، بل خيار استراتيجي وأخلاقي في آن واحد. كأنه يقول للعالم: "القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بالقدرة على تحويل الأعداء إلى شركاء".
بين السياسة والفلسفة
بهذا الموقف، تقاطع السادات مع روح كانط. كلاهما رفض أن تُختزل السياسة في موازين القوة فقط. كانط كتب عن السلام كواجب أخلاقي، والسادات جسّد هذه الفكرة على أرض الواقع. لكن هنا تكمن المفارقة: ما رآه كانط مثالياً، اختبره السادات كمعركة حقيقية وسط بحر من الألغام السياسية. فقد استعاد سيناء، وأعاد الى مصر مكانتها الدولية، لكنه دفع ثمناً باهظاً: عزلة عربية أولًا، ثم رصاصات قاتلة أنهت حياته على المنصة.
المفارقة القاسية
سلام السادات لم يكن سلاماً كاملاً. لم يُنهِ الصراع العربي–الإسرائيلي، ولم يُحقق العدالة للشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فقد فتح الباب لفكرة لم يكن الشرق الأوسط يعرفها: أن الحرب ليست قدراً أبدياً، وأن الجلوس مع العدو قد يكون أكثر جرأة من قتاله. هنا تلتقي فلسفة كانط مع تجربة السادات: السياسة كفنّ الممكن، لكن أيضاً كفنّ الجرأة الأخلاقية.
خاتمة: الإرث الذي لا يموت
اغتيل السادات، لكن صورته وهو يخاطب الكنيست لا تزال تلاحقنا. صورة رجلٍ وحيد اختار أن يواجه شعبه وتاريخه من أجل سلام بدا مستحيلاً. في تلك اللحظة، التقت القاهرة بكونيغسبرغ، والتقت السياسة بالفلسفة. كانط كتب أن السلام هو الامتحان الأكبر لإنسانيتنا، والسادات، رغم كل الجدل، اجتاز هذا الامتحان بدمه.
ربما لا يكون التاريخ عادلاً مع السادات، لكن الفلسفة ستظل تراه شاهداً حياً على أن المستحيل يمكن أن ينكسر… حين يجرؤ رجل واحد على مواجهة التاريخ.
نبض