الحرب في أوجها... لكنها هدنة في لعبة عضّ الأصابع

مقالات 29-10-2025 | 18:48

الحرب في أوجها... لكنها هدنة في لعبة عضّ الأصابع

الأرجح إذن صفقةٌ محدودة لا تقترب من الملفات الشائكة: تايوان، أشباه الموصلات، معيارية البنى الرقمية ومعركة التفوّق الكمومي.
الحرب في أوجها... لكنها هدنة في لعبة عضّ الأصابع
الرئيسان الأميركي دونالد ترامب والصيني شي جينبينغ.(أف ب)
Smaller Bigger

تتهيّأ واشنطن وبكين لقمةٍ تُعقد في كوريا الجنوبية بين ترامب وشي جينبينغ.

 

تتجه أنظار العالم إلى ما قد يسفر عنه اللقاء من نتائج تعيد رسم ملامح النظام الدولي، أو تُكرّس صراعاً طويل الأمد بين أكبر قوتين اقتصاديتين وعسكريتين.


ليس الأمر مجرّد تفاوضٍ على رسومٍ جمركية أو بنودٍ تجارية، بل هو اختبارٌ لتوازنات أعمق، تمسّ الأمن الإقليمي والهيمنة التكنولوجية وشبكات التحالف وقواعد اللعبة الجيوسياسية برمّتها.

 

يتجاوز الصراع بطبيعته البنيوية مفهوم الأزمة العابرة. بل إنها تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وتتداخل خيوطها في الاقتصاد والتكنولوجيا، وتتشابك حسابات التجارة مع المعادلات الاستراتيجية. على خلاف الصراعات التقليدية، تجري هذه الحرب دون دخان لكنها أشد أثراً نظراً إلى طابعها الزاحف، وتداعياتها واختلالاتها العميقة والطويلة الأمد.

 

الحلقة الرئيسية في هذه المعركة هي الأسواق! لتشمل حلقات الإنتاج والتوزيع: من التجارة والطاقة إلى سلاسل الإمداد، ومن أشباه الموصلات والحوسبة الكمومية إلى المعادن النادرة الحيوية للصناعات الإلكترونية والدفاعية.

 

وإذ تسعى واشنطن لإعادة تشكيل سلاسلها وتقليل اعتمادها على هيمنة بكين على الموارد، ترى الصين أنّ تحرير تدفقات هذه المواد، ولا سيما المعادن النادرة، جزءٌ رئيسي من أمنها وقوتها التفاوضية.

 

وبعد، حين كانت العلاقات الأميركية-الصينية تمضي بسلاسةٍ نسبية، كانت مقاربة الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ براغماتية في ما يتعلق بخلافات الأراضي مع جيران الصين: "جيلُنا لا يمتلك من الحكمة ما يكفي لحلّ هذه المسألة؛ ولْنَدَعْها للجيل القادم، فهو سيكون أذكى منّا".


أمّا اليوم فقد غدت جزيرة تايوان عقدةَ مركزية في التوتر: حيث ترى الولايات المتحدة أنّ مغامرةً صينية هناك ستقوّض مصداقيتها وتحالفاتها شرق آسيا وعبر الهادئ، فيما تعدّها بكين جزءاً من أراضيها، ومنصّةً لإبراز قوتها شرق المحيط الهادئ.

 

على الصعيد الدولي، يمثل الصراع على الذكاء الكمومي، والبنى التحتية للتحكّم الرقمي، وحوكمة البيانات، ومعاييرها، الملف الأخطر والأكثر حسماً في السباق المتصاعد للهيمنة على العتاد الرقمي الصلب، حيث يتضاعف التنافس شهراً بعد شهر، في مناخ من المخاطر والهشاشة الدولية، ويصبح التفوّق التقني حاسماً بالنسبة إلى الأمن القومي لكلٍّ منهما.

 

ورغم ذلك، ثمة أرضيةٌ مشتركة ممكنة بين البلدين تنبع من حاجتهما لوضع قواعد لحوكمة التقنيات الناشئة وتنظيم البنية الرقمية العالمية، بما يدرأ الانزلاق إلى فوضى المعايير وسباقات الحظر المتبادل. ورغم صعوبته الشديدة قد يكون الفرصة الأجدى التي تتيحها المفاوضات.

 

على طاولة القوة، تمتلك الولايات المتحدة مزايا حاسمة: تفوّقٌ تكنولوجي نسبي، شبكة تحالفاتٍ واسعة عابرةٍ للقارات، منظومة ابتكارٍ متينة تتكئ على جامعاتٍ وشركاتٍ رأسمالها المعرفي لا يُضاهى، وهيمنةٌ للدولار تمنحها أدوات تأثيرٍ مالية وتنظيمية استثنائية. تُضاف إلى ذلك سوقٌ داخلية عملاقة قادرة على امتصاص الصدمات واستيعاب دورات الاستثمار في التقنيات الباهظة.

 

لكن الصين تمتلك بدورها أوراقاً محورية: تموضعٌ عميق في قلب سلاسل التوريد العالمية، وقدرةٌ على التأثير في مدخلاتٍ حيوية لصناعاتٍ أميركية عديدة، من المعادن الحرجة إلى مكوّنات الإلكترونيات. واعتماد شرائح من الاقتصاد الأميركي – ولا سيما المزارعين – على السوق الصينية يمنح بكين مجالاً للمقايضة، بعدما استثمرت في بدائل توريد في البرازيل وأميركا الجنوبية. ويُعدّ ملف المعادن النادرة ورقة ضغطٍ فورية حسّاسة؛ فتعطيلها يُلحق أذىً بالغاً بصناعاتٍ متقدمة.

 

في المقابل، تواجه الصين تحدياتٍ داخليةً جسيمة: أزمة ديموغرافية متفاقمة، تباطؤٌ اقتصادي، وقصورات هيكلية في القطاعين المالي والمصرفي، ما قد يحدّ من قدرتها على تحمّل كلفة المواجهة الطويلة.


لا تنفي هذه النقاط، عناصر القوة الصينية، بل تضبط سقفها، وتُدخل حسابات بكين في إطار «توازن الكلفة والمكسب» على المدى المتوسط والبعيد.


أما في واشنطن، فمع أنّ مصادر القوة وفيرة، تبدو مقاربة إدارة ترامب تجريبية متقلّبة، تمزج بين الرسوم والقيود والصفقات الظرفية وتبدّل الأولويات، على نحوٍ يربك الحلفاء والخصوم معاً.


في المقابل، تمنح مركزية القرار في بكين شي جينبينغ قدرةً على التعبئة السريعة واستخدام أدوات الدولة بكفاءةٍ أعلى.

 

ومع ذلك، يلفت خبراء أميركيون إلى كُلفة المركزية المفرطة وإشارات التباطؤ الاقتصادي والديموغرافي. وفيما لا يواجه شي جينبينغ اختباراً داخلياً وشيكاً، يبقى ترامب تحت وطأة استحقاقاتٍ انتخابية قريبة قد تؤثر مباشرة في هامش المناورة.

 

بإمكان واشنطن تنويع مصادر المعادن الحرجة وبناء سلاسل بديلة، وهو مسارٌ لا يحتاج إلى تقنياتٍ خارقة، بقدر ما يتطلب استثماراتٍ وبُنى تحتية تستغرق سنوات – سبعاً على الأقل – حتى تؤتي أُكلها.


خلال هذه الفجوة الزمنية، تستطيع بكين الاستفادة من نهج الصفقات القصيرة الذي يفضّله ترامب لتحصيل تنازلاتٍ ملموسة من دون أثمانٍ سياسية عالية. هنا تكمن جاذبية "الهدنة الجمركية" للطرفين: شراء الوقت لإعادة التموضع، لا عقد صفقةٍ نهائية.

 

يستبعد مركز (CSIS) التوصّل إلى «صفقة كبرى»، لكن الأسواق المالية تفاعلت بنبرة تفاؤلٍ حذر، مع إدراكها لمخاوف سبق أن خبرتها. وتشير التقارير للتوصّل إلى «إطار» لخفض التعريفات على بعض السلع، مقابل تخفيف بكين لقيود تصدير المعادن النادرة.


لكن العمل الحقيقي يبدأ بعد القمة: تفاصيل التنفيذ، وآليات التحقّق، وبناء آليات تُحصّن الاتفاقات. فالسؤال الجوهري لصانعي السياسات والشركات والمراقبين ليس: هل ستكون ثمة صفقة؟ بل: ما شكلها؟ وما مدى إلزاميتها؟ وكيف ستُنفَّذ وتُراقَب، وبأيّ من آليات تسوية نزاعات؟


الأرجح إذن صفقةٌ محدودة لا تقترب من الملفات الشائكة: تايوان، أشباه الموصلات، معيارية البنى الرقمية ومعركة التفوّق الكمومي. فهذه تحتاج إلى تنازلاتٍ سياسية واستراتيجية باهظة على مصداقية واشنطن لدى حلفائها، فيما لا تبدو بكين مستعدة لدفع أثمان ثقيلة. وبقدر ما يستبعد الطرفان فشلاً مدوياً يستبعدان اختراقاً شاملاً.

 

تتجاوز نتائج هذه المواجهة العلاقات الثنائية إلى عمق التوازنات الدولية. وفي قلب هذه المعادلة، تقع منطقة الخليج والشرق الأوسط، بما تمثله من طاقةٍ وأسواقٍ وممرّاتٍ بحريةٍ وبنى تحتية رقمية متنامية. لذا، سيكون لخيارات العواصم الإقليمية، في التموضع والربط والمشاركة في سلاسل القيمة الجديدة، أثرٌ مضاعف في رسم المشهد الآتي.

 

إنها إذن "هدنةٌ في لعبة عضّ الأصابع" لا أكثر: تستريح فيها الأيدي قليلاً، لتبقى الأعصاب مشدودة، والحرب في أوجها – اقتصادياً وتقنياً واستراتيجياً. والآتي مرهونٌ بقدرة الطرفين على ترجمة لحظة التهدئة إلى بناء قواعد مستدامة، أو تركها تستحيل محطةً أخرى في مسلسل التصعيد المؤجَّل.

 


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/25/2025 1:09:00 PM
تأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه العديد من المدارس السورية نقصاً حاداً في المقاعد الدراسية
اقتصاد وأعمال 10/28/2025 10:49:00 AM
يعطي المدعي العام المالي القاضي ماهر شعيتو عناية خاصة لملف المبالغ المستعادة ومتابعة كل تفاصيله.
النهار تتحقق 10/28/2025 1:58:00 PM
أثارت الصورة تساؤلات عن صحتها، خصوصاً انه ليس من المألوف ظهور رئيس البرلمان اللبناني بالدشداشة والشبشب. 
لبنان 10/27/2025 8:02:00 PM
أثار خبر مقتل الشاب إيليو أبو حنا برصاص فلسطيني في مخيم شاتيلا عضباً لبنانياً كبيراً.