القبيلة والدولة في الأردن: تحالف تاريخي يواجه اختبار المستقبل

مقالات 03-10-2025 | 12:08

القبيلة والدولة في الأردن: تحالف تاريخي يواجه اختبار المستقبل

مع تطوّر النظام السياسي، لم تعد القبائل مجرد ذراع عسكرية، بل أصبحت فاعلاً سياسياً واجتماعياً يطالب بالتمثيل والمشاركة في مؤسسات الدولة. 
القبيلة والدولة في الأردن: تحالف تاريخي يواجه اختبار المستقبل
مبنى مجلس النواب الأردني.(أرشيف)
Smaller Bigger

يشكّل البعد القبلي إحدى الركائز البنيوية في تشكيل الهوية الوطنية والسياسية في الأردن، حيث أسهمت القبائل منذ نشأة إمارة شرق الأردن عام 1921م في دعم المشروع السياسي للدولة وترسيخ شرعيتها. ويُعدّ التحالف بين القبائل والدولة من أهم العوامل التي حافظت على استقرار النظام السياسي في سياق جيوسياسي إقليمي شديد الاضطراب. إن دراسة هذه التحالفات تتيح فهم ديناميكيات العلاقة بين الفواعل التقليدية – كالعشيرة والقبيلة – والمؤسسات السياسية الحديثة، خاصة في بيئة شرق أوسطية تتسم بالتقلبات والصراعات.

منذ تأسيس إمارة شرق الأردن أدرك الأمير عبد الله الأول أن بناء الدولة الناشئة يتطلب عقد تحالف استراتيجي مع القبائل، التي كانت تشكّل القوة الاجتماعية والعسكرية الأبرز آنذاك. لقد تمحور هذا التحالف حول مبدأ تبادل الدعم: الدولة تمنح الحماية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما تقدّم القبائل الولاء وتوفر الموارد البشرية اللازمة لبناء الجيش وقوات البادية. هذه المعادلة مكّنت النظام من بسط نفوذه على الأطراف المترامية وضبط الأمن في مناطق البادية والريف، ما عزّز شرعيته الداخلية.

وظّف النظام هذه التحالفات لضمان الاستقرار في فترات الأزمات، مثل الحروب العربية-الإسرائيلية وأحداث أيلول/سبتمبر 1970، حين أدّت القبائل دوراً حاسماً في حماية النظام من التهديدات الداخلية والخارجية. ومع تطور النظام السياسي، لم تعد القبائل مجرد ذراع عسكرية، بل أصبحت فاعلاً سياسياً واجتماعياً يطالب بالتمثيل والمشاركة في مؤسسات الدولة. هذا التحول تجلّى في إدماج أبناء القبائل في المجالس التشريعية والبيروقراطية منذ خمسينيات القرن الماضي، ما أضفى طابعاً مؤسسياً على التحالف.

في الوقت الحاضر، يتخذ التحالف بين القبائل والدولة شكل "عقد اجتماعي غير مكتوب" يقوم على تبادل المنافع: الدولة توفّر الوظائف العامة والخدمات الأساسية والبنية التحتية، بينما تلتزم القبائل بتقديم الدعم السياسي والاجتماعي وضمان الاستقرار المحلي. هذا التحالف ما يزال مؤثراً بشكل مباشر في العملية الانتخابية، إذ تتيح أنماط التمثيل النيابي القائمة تعزيز حضور القبائل على حساب القوى الحزبية ذات البرامج الوطنية.

إضافة إلى ذلك، تقوم القبائل بدور الوسيط الاجتماعي الذي يخفّف الضغط على أجهزة الدولة عبر حل النزاعات المحلية، الأمر الذي يجعلها شريكاً أساسياً في إدارة الأمن المجتمعي. لكن التحولات الاقتصادية خلال العقد الأخير – مثل تراجع قدرة الدولة على التوظيف في القطاع العام وارتفاع معدلات البطالة – أفرزت خطاباً قبلياً جديداً تتبنّاه الأجيال الشابة، يطالب بإصلاحات هيكلية أكثر عمقاً ويربط الولاء للدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد. هذه الظاهرة تعكس انتقال التحالف من كونه علاقة رعاية أحادية الجانب إلى علاقة تفاوضية مشروطة بالاستجابة لمطالب التنمية والحوكمة الرشيدة.

يُرجّح أن يبقى التحالف القبلي-الدولة أحد أعمدة الاستقرار السياسي في الأردن على المدى المنظور، لكنه مرشح للتحوّل من "علاقة زبائنية" تقليدية إلى علاقة أكثر مؤسسية تستند إلى الحقوق والواجبات. تعميق الإصلاح السياسي وتطوير الحياة الحزبية قد يقللان من الهيمنة التقليدية للقبائل على العملية التشريعية، لكنه في المقابل قد يتيح لها دوراً أكثر تنظيماً ضمن مؤسسات الدولة، بدلاً من الاقتصار على النفوذ غير الرسمي.

إنّ نجاح الدولة في تنفيذ سياسات تنموية عادلة وتوفير فرص عمل للشباب سيعزز من صلابة هذا التحالف ويخفف من حدة الاحتقان الاجتماعي. أما إذا استمرّ الإخفاق في معالجة التحديات الاقتصادية، فقد تتصاعد أشكال التعبير الاحتجاجي داخل الأطر القبلية، ما يفرض ضغوطاً إضافية على استقرار النظام السياسي. ومن المرجّح أن تشهد المرحلة المقبلة "تحالفات هجينة" جديدة تجمع بين النخب القبلية والشبابية والحزبية لتشكيل منصات ضغط أكثر فاعلية على صنع القرار، وهو ما سيعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس أكثر توازناً.

وفي هذا الإطار، يبرز أيضاً البعد الإقليمي كعامل مؤثر في مستقبل هذه التحالفات. فقد أثارت التطورات الأخيرة في محافظة السويداء السورية وما رافقها من تحشيد عشائري ضد الدروز اهتماماً واسعاً لدى وسائل الإعلام والأجهزة الاستخبارية الدولية، باعتبارها مؤشراً على عودة البنى التقليدية – من قبائل وعشائر – لتشكيل المشهد السياسي في المنطقة. هذه العودة المفاجئة للبنى العشائرية التقليدية، التي سعت أنظمة عربية مثل سوريا والعراق سابقاً إلى تهميشها لصالح مشاريع التحديث وبناء الأحزاب البرامجية، تطرح تساؤلات حول حدود فاعلية الدولة المركزية في ظل الأزمات.

وفي الحالة الأردنية، شهدت بعض العشائر، ولا سيما عشائر قبيلة "أهل الجبل" الأربع (المساعيد، الشرفات، العظامات، زبيد) موجات تعاطف وتأييد لتلك التحركات، ما يعكس وجود "نَفَس عشائري-قبلي" متجدد يمكن أن يتفاعل مع التحولات الإقليمية. إن قراءة هذه الظواهر في ضوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في الأردن تشير إلى أنّ التحالف القائم بين القبيلة والدولة مرشح لأن يتأثر لا فقط بالمتغيرات الداخلية، بل أيضاً بالديناميات الإقليمية التي قد تعيد الاعتبار للدور القبلي في معادلات السلطة والاستقرار السياسي في الشرق الأوسط.

إنّ الحفاظ على استقرار هذا التحالف وتطويره يتطلب من الدولة الأردنية إعادة تعريف علاقتها بالقبائل على أسس أكثر عدالة واحتراماً وشفافية، بما يضمن دمج الطاقات الشبابية والقبلية ضمن المؤسسات الرسمية، ويمنع انزلاق الولاءات إلى مسارات احتجاجية أو غير منظمة. وبذلك لا يبقى التحالف القبلي-الدولة مجرد إرث تاريخي، بل أداة استراتيجية يمكن أن تسهم في استدامة الاستقرار السياسي وتعزيز مسار الإصلاح في الأردن.

 


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت