
تتزايد المخاوف عند الذين أيدوا انتصار الثورة التي قضت على نظام الأسد في سوريا، ذلك أن المخاطر تتكاثر في الداخل، والصراع عليها يتفاقم من الخارج، بينما الذين تولوا المسؤولية في الإدارة الجديدة لم يُقدموا ما كان منتظراً منهم حتى الآن، ووصلوا إلى مشارف استهلاك فترة السماح التي أعطيت لهم، من دون استثمارها على الوجهة المقبولة.
يمكن التسليم بأن أحداث 7 آذار (مارس) مؤامرة مُحكمة، قادها "فلول" النظام السابق في المناطق الساحلية لسوريا؛ وهذه المناطق تعيش فيها أغلبية أبناء الطائفة العلوية التي كان ينتمي إليها الرئيس المخلوع بشار الأسد. يمكن أن تروج فكرة أن ما حصل انقلاب مدعوم من قوى خارجية ما زالت تطمح إلى العودة إلى الساحة السورية، لأهميتها الاستراتيجية لمشروع هؤلاء، خصوصاً إيران وبعض القوى العراقية المؤيدة لها، لكن كلّ ذلك لا يعفي الحكومة الانتقالية من كامل المسؤولية عمّا حصل، من حيث الأسباب، ومن حيث النتائج.
قوى مهمة في الطائفة العلوية أيّدت النظام الجديد، ومنهم رجال دين لديهم مكانة متقدّمة ومؤثرة في داخل الطائفة. لكن الإدارة الانتقالية لم تستفِد من هذه الورقة كما يجب، برغم التطمينات التي أطلقها الرئيس أحمد الشرع في جولته الميدانية الناجحة على مدن الساحل الرئيسية في منتصف شهر شباط (فبراير) الماضي؛ والزيارة لاقت التفافاً شعبياً كبيراً، ولم يحصل فيها ما يعكر صفوها، سوى الإشارة المتواضعة التي بعثتها الوقفة الاحتجاجية لعدد من المتقاعدين والموظفين الذين أوقفت رواتبهم المتواضعة جداً، وليس لهم سُبل عيش من دونها، كما في طلب ممثلي الطائفة العلوية في لقائهم مع الشرع بضرورة إصدار عفو عن أفراد الجيش والقوى الأمنية العاملين إبان فترة النظام السابق من غير المرتكبين للجرائم الشنيعة.
لم تُسجَّل خطوات مهمة لمعالجة المشكلات القائمة، ولم يتم إشراك أي من المكونات العلوية في منظومة الإدارة الجديدة؛ وهذا التغافُل أعطى مُحفزات للقوى الانقلابية. كذلك حصلت بعض الأخطاء غير المقبولة بمناسبة ملاحقة كبار المرتكبين في بلدات وأحياء علوية، حيث شمل التشفّي شرائح مدنية من دون أيّ سبب، كما حصلت عمليات تصفية مشبوهة وبأساليب غير مقبولة، طالت بعض الأبرياء، خصوصاً في ريف حمص الغربي، وبدا جزء من هذه الأعمال المُخلَّة كأنه تقليد لممارسات النظام البائد، حتى أن الشكّ عند بعض الرأي العام وصل إلى حد تصديق الروايات التي تحدثت عن عمليات استهدفت رموزاً من نشطاء الثورة لا يؤيدون التوجّهات الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال مقتل "منشد الثورة" قاسم الجاموس بحادث سير على طريق الزبداني، "قيل إنّه مُدبّر"، ولم تُقدِّم السلطات المختصة تحقيقاً كافياً يُزيل الشكوك التي أحاطت بالواقعة. واستفادت وسائل الإعلام المناهضة للإدارة الانتقالية من الغموض, بينما تبرير الأخطاء دائماً يكون بالقول: إن مرتكبيها عناصر غير منضبطة، وليسوا من القوى النظامية، كأنما الأمر توزيع أدوار، أو تهرُّب من المسؤولية، ولا يُنتج قناعة دامغة.
وما حصل مع الساحل، ومع بعض العلويين، حصل في الجنوب ومع بعض الموحدين الدروز، حتى أن بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق يوحنا العاشر ناشد من دمشق الرئيس الشرع لوضع حدّ للتجاوزات، وأكّد على مرجعية الدولة في القضايا الأمنية والقضائية والمالية. وبعض الذين لم يتعاونوا مع السلطة الجديدة في محافظة السويداء تزايدت مخاوفهم من الانفلاش الأمني، كما من تولية مسؤولية كامل إدارة البلاد لأشخاص كانوا من عداد "هيئة تحرير الشام"، رغم الإعلان عن حلّها تنظيمياً. وخطاب بعض الذين يدورون في فلك الإدارة الجديدة – لا سيما في بعض المساجد – يوحي كأنّ "الأغلبية السنية" مسؤولة عن البلاد، وهي ستتعاطى برأفة واحتضان مع المُكونات الأخرى.
وهذا المنطق يرفضه أبناء الطوائف الأخرى، ومعهم حشد كبير من المسلمين السُنة، فهؤلاء يتطلعون إلى مستقبل سوريا الواعد بنظام ليبرالي ديمقراطيّ مدنيّ، فيه مواطَنة متساوية أمام القانون، وليس فيه أكثرية وأقليّات، خصوصاً أن تاريخ السوريين وطبيعتهم مبنيان على الانفتاح والتسامح والمدنية، وسوريا كانت عبر التاريخ ملتقى للتنوع، وليست بلداً منغلقاً على الإطلاق.
إسرائيل تستفيد من الأخطاء، وهي معادية بطبيعتها لسوريا ولكلّ المحيط، ويهمها شرذمة الأمة، ومن مصلحتها تغذية كل أشكال التفرقة والخِصام بين المكونات السورية، وتستغل حالة الفقر والعوز عند البعض لتقديم مساعدات مُختلفة، كما تدَّعي استعدادها للتدخّل لحماية بعض الأقليات السورية – لا سيما الدروز – وهدفها بعث الاقتتال الداخلي والخراب وشحن النفور بين مكونات الشعب السوري.
التآمر – أو الانقلاب – فشِل في الساحل، وكان ثمنه باهظاً جداً، صُرِف من رصيد الثورة والسلطة التي تمثلها. ولاقى خطاب الإدارة الجديدة بعض التفهَّم العربي والدولي، على خلفية الموبقات الفظيعة التي تحيط بتجربة النظام البائد. لكن ذلك لا يعني أن هؤلاء ومعهم قوى مُتعددة حريصة على نجاح الثورة السورية راضون عن الأداء الذي قدّمته الحكومة الانتقالية. فالوعود التي جاءت في خطاب الرئيس الشرع لم تتحقق حتى الآن، ولم تُشكَّل حكومة جديدة تمثل المجتمع السوري المتنوّع كما كان الوعد، كما أن الحوار بدا من خلال المؤتمر وغيره، كأنه حوار على عجل، لم يَطل المعارضين من أبناء الثورة. وصديقك مَن صدقك القول.