الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

طفولة تسممت بالرصاص وحرمت نعمة الذهب

المصدر: "النهار"
تمام العودات- نائب المدير الطبي في منظمة أطباء بلا حدود
طفولة تسممت بالرصاص وحرمت نعمة الذهب
طفولة تسممت بالرصاص وحرمت نعمة الذهب
A+ A-

أوصلنا طريقنا الطويل والمتعب إلى سوكوتو شمالي نيجيريا بعد ساعات سبع من مغادرتنا العاصمة أبوجا. لنتوجه تالياً إلى ولاية زمفرا حيث يعالج برنامج منظمة أطباء بلا حدود مئات الأطفال الذين يعانون تسمماً من الرصاص. 

 أدركت على الطريق أن بعثتي الأولى مع أطباء بلا حدود في عام 2012 لن تأخذني إلى طرق معبدة وأماكن يزورها السياح بل إلى مناطق تنهكها الحروب والأمراض ويعاني ناسها من ظروف عصيبة إذ لا يجدون ملجأً أثناء سعيهم إلى حماية حياة أحبتهم ويسعون جاهدين إلى الحصول على المساعدة من منظمات إنسانية جعلت مهمتها إغاثة من ظلمهم حملة السلاح وتجار المعاناة.

 أثبتت صعوبة الرحلة أننا على الطريق الصحيح، فالشمال النيجيري يعتبر من أكثر الأماكن التي شهدت عقوداً من المعاناة آخرها أزمة التسمم بالرصاص، وهذا ما دفعنا إلى إنشاء برنامج التسمم بالرصاص غير المألوف لدينا في عام 2011.


بدأت قصة برنامج التسمم بالرصاص عندما دعي أحد فرقنا الطبية المعنية بمراقبة الأوبئة إلى قرية شهدت وفاة أعدادٍ هائلة من الأطفال. ووفقاً لمهام الفريق، تزور المنظمة التجمعات السكانية بشكل منتظم في المناطق المهددة بالأمراض المعدية. وقد شهد شمال نيجيريا عدداً من الأوبئة منها حالات الإسهال وصولاً إلى التهاب السحايا. دخل الفريق إلى القرية المذكورة ليدرك أن عدد وفيات الأطفال ازداد بشكل بالغ في الفترة الماضية وبلغ حداً وبائياً ولكن الأعراض العصبية لم تتطابق مع أي من الأمراض المعدية المعروفة. كمنَت الصعوبة في مواجهة وباء غير معروف مع احتمال كونه شديد الخطورة ومعدياً للسكان المحليين والعاملين الصحيين، لذا حرص زملاؤنا على تسجيل الأعراض وأخذ العينات بشكل آمن. وأبرز الأعراض تمثّلت بصعوبة المشي والتوازن والاختلال الدماغي والاختلاجات وقد اختلفت عن أي مرض معدٍ معروف. فهل اكتشفنا مرضاً جديداً؟ وهل نستطيع معرفته وعلاجه؟

تبادر إلى ذهن الأطباء في الفريق مجموعة من القصص المعروفة عن اكتشاف الأمراض المعدية عند بدايتها من إيبولا التي اكتشفت في الكونغو عام 1976 إلى غيرها من الأمراض التي تسببت في حالات عدَّة بإصابة الأطباء الذين عالجوا المرضى الأوَل، إلى جانب أعداد الوفيات في صفوف المرضى أنفسهم. وبرز السؤال الأساسي: ما هو المسبب لهذا المرض الغامض في زمفرا وكيف ينتقل بين السكان؟

فيما كان الأطباء يتجولون في القرية المنكوبة بخسارة أطفالها لاحظ أحدهم أن الماعز يعاني أيضاً من أعراض عصبية ولا يستطيع المشي بتوازن. وعاد السؤال: ما المرض المعدي الذي يستطيع أن يصيب البشر والماعز على حد سواء؟ بعد نقاش وتفكير وتشاور مع أطباء في المقر الرئيسي للمنظمة فكّرنا في احتمال حدوث تسمم بيئي. راودت الفكرة طبيباً سبق أن عالج أطفالاً أصيبوا بتسمم بالمعادن الثقيلة في الهند.

أثبتت التحاليل صحة الفكرة إذ تبيّن أن الأطفال المصابين يعانون من تسمم بالرصاص تجاوز الحدود الطبيعية بمئات المرات. أما السبب في ذلك فكمنَ في التنقيب عن الذهب. فقد عمل سكان المنطقة منذ عقود لفترات طويلة على حفر الصخور وتفتيتها وعلاجها بالزئبق لاستخلاص كميات ضئيلة من الذهب ليعينهم على الحياة في ظل الفقر المتفشي وفشل المحاصيل.

وبدا أنَّ الطرق البدائية للتنقيب عن الذهب تسببت في انتشار الغبار الذي حمل كميات كبيرة من الرصاص في الجو وعلى التربة وفي المنازل. وقد حدث ذلك في قرى شديدة الفقر وقريبة من مناطق النزاع المسلح مع جماعة بوكو حرام شمالي وشرق نيجيريا.

وتبين لنا أن علاج هؤلاء الأطفال أصعب مما توقعنا نظراً لكلفته الباهظة وطول مدته، تزامناً مع ضرورة تنقية التربة والبيوت من غبار الرصاص المنتشر. هذا ما جعل منظمة أطباء بلا حدود تستهل مشروعاً طبياً في زمفرا لمعالجة الأطفال المتأثرين وتنقية بيئة عيشهم من المادة السامة.

دخلت مستشفى التسمم لأرى زملاء من عدد من البلدان يقدمون الرعاية الصحية لعشرات الأطفال المتأثرين بالرصاص وبنقص التغذية وآخرون مصابون بأمراض الطفولة والفقر. المستشفى غدا مكاناً لعلاج السكان ومركزاً للتوعية حول طرق معالجة التسمم بالرصاص والتغذية والصحة العامة للمنطقة بكاملها.

ومما لفت نظري وجود عشرات الأمهات اللواتي تركن عملهن وبيوتهن للعناية بالأطفال المرضى وعرفت من زملائي الثمن الباهظ الذي يدفعنه جراء هذا المرض إذ يمضين أغلب أوقاتهن في المستشفى مع أبنائهم المرضى ما يمنعهن من العناية بأطفالهم الآخرين ويعيق عملهنَّ في الحقول ما يؤثر على دخل الأسر وقدرتها على الحصول على قوتها. فالمرض لا يؤلم المرضى فقط بل عائلاتهم ومجتمعاتهم في الأماكن التي تعاني الفقر المدقع.

بعد المستشفى، ذهبت لزيارة مناجم الذهب وتعرفت إلى الظروف البدائية للتنقيب عن الذهب حيث يحفر الرجال حفراً في أماكن يتوقعون وجود الذهب فيها ويكسرون الصخور باليد مستعملين مطارق يدوية الصنع. بعد تفتيت الحجارة تحوّلها آلات يشغلها أطفال إلى قطع صغيرة بحجم حبات التراب ليقوم رجال بغسلها مرات عديدة حتى يجدوا ذرات الذهب التي تُعالج بعدها بالزئبق لاستخلاص الذهب. تدر هذه الطريقة البدائية عددًا قليلاً من حبيبات الذهب كل يوم على عدد كبير من العاملين ويكفي مدخول بيعها متطلبات حياتهم اليومية. يعمل العديد من الأطفال أيضاً في المناجم معرضين أنفسهم لمخاطر العمل مع الآلات ومع مواد سامة بعيداً من المدرسة واللعب ومن عيش الحياة الطبيعية للأطفال.

لا شك في أن العمل الذي نقوم به في أطباء بلا حدود يتعدى ممارسة الطب كما تعودنا عليها. يتوجب علينا أن نذهب إلى أبعد من علاج المرضى. في بلادنا العربية منذ جيلين كان الأطباء يعودون إلى بلداتهم وقراهم ليمارسوا المهنة في مجتمعاتهم المحلية لبقية حياتهم مؤدين دوراً سياسياً واجتماعياً واسعاً أكسبهم لقب "حكيم" الذي لا أزال أفخر فيه. أما أبناء جيلي فتخطوا دور الأطباء في مجتمعاتهم الضيقة وأصبحوا طموحين للعمل في عيادات خاصة في المدن الكبرى أو بلاد الاغتراب. ومئات من زملائي في كلية الطب في جامعة دمشق اختاروا اتجاهات عديدة منها اختصاصات دقيقة جعلتهم أعلاماً في بلدان متعددة في الشمال الأميركي وأوروبا وآخرون اختاروا ممارسة الطب في بلادهم. أما طريقي فكان مختلفاً وغير مألوف منذ قررت التخلي عن التخصص في الجراحة والعمل في بعثات إنسانية في العراق خلال الاحتلال الأميركي وفي إندونيسيا بعد كارثة التسونامي. أردت أن أعرف العالم حيث أدركت أن الطب لا يتوافر بشكل عادل ومتساوٍ لجميع من يحتاجونه وهناك من يعيشون ويموتون، صغاراً وضعفاء، من دون أن يتمكن طبيب أو ممرض من مساعدتهم.

------------------


أطباء بلا حدود منظمة طبيّة إنسانية دولية مستقلة تقدّم الإغاثة الطارئة إلى السكّان المتضررين جراء النزاعات المسلّحة والأوبئة والكوارث الطبيعية فضلاً عن أولئك المحرومين من الرعاية الصحية. وتوفّر المنظمة المساعدات للأفراد وفقاً لاحتياجاتهم وذلك بغضّ النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو الانتماء السياسي. كما تمتثل المنظمة في أعمالها لأخلاقيات مهنة الطب ومبدأي الحياد وعدم التحيز.

يعمل الدكتور تمام العودات نائباً لمدير الدائرة الطبية في منظمة أطباء بلا حدود في جنيف / سويسرا .هو طبيب سوري وخبير في الصحة العامة وعمل مسبقاً في الحركة الدولية للصليب والهلال الأحمر.

يشمل عمل تمام العودات في منظمة أطباء بلا حدود على المستويين الميداني وفي المقر الرئيسي الدعم المباشر للمساعدة الطبية الطارئة في عدة بلدان حول العالم.

وقد قام بنشر عدة مقالات ودراسات حول مواضيع متعددة في مجال الصحة العامة والاستجابات الطبية في حالات الطوارئ ومناطق النزاعات والتي تتضمن الحد من انتشار الأوبئة ومجابهة الكوارث الطبيعية والأمراض غير المعدية والتطعيم والدعم النفسي.

بالإضافة إلى عمله في إدارة الدائرة الطبية في المنظمة، يعمل الدكتور تمام أيضاً على عدة مسائل متعلقة بجودة الرعاية الطبية المقدمة في حالات الطوارئ وفي أنظمة المعلومات الصحية والأخلاقيات الطبية في حالات الطوارئ.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم