الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

سمير عطاالله: من قرى لبنان إلى الآفاق

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
سمير عطاالله: من قرى لبنان إلى الآفاق
سمير عطاالله: من قرى لبنان إلى الآفاق
A+ A-

#سمير_عطاالله كاتبٌ لا يُصنَّف، ولا تفي الخانات المألوفة بحصر إنتاجه الغزير، ولا بتعيين دقيقٍ لأجناس قولِهِ، يحمل في أكوانه الثقافية مزيجًا من ثقافات عالمية، متراميةٍ أطرافُها، تتطاوح فيها الصور والكلمات وتتناثر من جَليد روسيا السوفيتية، فتمتد إلى ناطحات سحاب أميركا في جزئها الشمالي، وأزقتها البائسة من القسم الجنوبي، مرورًا بالقارة العجوز وتاريخ أنوارها وعظمة ساستها أو مكائدهم، وصولاً إلى الوطن العربي، على ما فيه من تشعُّبِ الخرائط، ومتغيرات الأحداث في شِعاب التاريخ. أكثر من خمسة عقود من الكتابة اليومية على أعمدة الصحف العربية الكبرى مثل "النهار"، "الشرق الأوسط"، "الأسبوع العربي"، "الصياد"، و"الأنباء"... إلى جانب رواياتٍ وكتبٍ يُعييك تصنيفُها ولا تستطيعه، وأتمُّ إبداعه وآخذُه بالنفس ما يصوغه كلَّ يومٍ في زاوية "الرأي" من الشرق الأوسط منذ 1987، ناقدًا ما يطرأ في دنيا السياسة من حركاتِ وتحولات، من دون تركيز مُسفٍّ عليها، بل يقدمها غاباتٍ وأكماتٍ، ويَهديكَ إلى ما في أدغالها من مَسَحات الجمال، ناسجًا سِيَرَ الوجوه الثقافية، بخيوطٍ رفيعة من السحر، ينتقيها من دنيا الفكر والفن، ويتعقَّبها حول العالم بأسره، مع تفضيلٍ، فيه لُطفُ القَرَوي، وجوهَ لبنان وقاماته، وهم بذلك خليقون، يَعرض قصصهم ونوادر هجراتهم وحِلِّهم، ويستذكر، إن تيسر له الاستذكار، ما عَقده هو معهم من علاقات شخصية وتجارب.  

مقومات الظاهرة القلمية الفريدة

من أخص خصائص سمير عطاالله الأسلوبية امتلاكُه القدَحَ المُعلى في تطويع اللغة العربية، وإضفاء الأدبية على فنِّ الكتابة الصحافية الذي غدا - تحت قلمه الأخَّاذ- ذوبًا من فنٍّ ونُبلٍ، فقد كان، في سائر ما يكتب، باحثًا عن قيم الحق والجمال والخير، في تجارب الإنسان، "أنَّى سارت رَكائِبُه" عبر متاهات التاريخ، فَطَوَّر بذلك أسلوب مقال الرأي الصحافي مزجًا بين التأريخ لليومي البسيط، والتأمل الفلسفي الأخلاقي العميق. ومما يشدك في أسلوبه التماسكُ والانتظام، كما لَهج بمزاياه شيخُ الصناعة عبدُ القاهر الجرجاني، مع تمسكٍ بواجب الصحة النحوية وفخامة التعبير إيمانًا أنَّ سلامة اللغة من الأخطاء الشائعة، ونصاعة الأسلوب واتساع الثقافة هي مقومات الفذاذة في المقال الصحافي. وفيما يكتبه تَعشقُ تصاريفَ اللسان العربي، وما يجريه على تراكيبه ومفرداته من الصور التي لا تتوقعها، وكذلك ما تستكشفه في ساحر الاقتران بين دَوالِّ اللغة ومدلولاتها، يَعقد منها ما لا يخطر لك على بالٍ.

ومن ثمرات هذا التملك لناصية القلم إجادته صياغة الظَّرف وابتكار نَفائِس السخرية، يلقيها سهاما نافذةً لاذعةً، حتى إنَّكَ لتغبط مَن جَعله موضوعًا لِظَرفه، حين يصورُ وضعَه المُضحك - كأحسن ما نظَّر للإضحاك الفيلسوف الفرنسي برغسون- ويستعيدها مواقفَ أو كلماتٍ سخيفة، حتى يهولك ما فعل به، وتشفِق عليه. يأتيك بها صورًا لاذعةً من أعماق الخيال، واقْرَأ إن شئتَ: "الدميم الذي أحبته النساء" أو "الرجل العادي" رئيس فرنسا السابق.

وعبثًا تبحث له عن رأي صارخٍ قاطع - على كثرة ما يكتب في شؤون السياسة والتاريخ- لأنه يتجنب في "آرائه" المجازفة والتهور، لا يطلق الأحكام إلا نادرًا، يعرض "الوضعيات"، كما حددها جان بول سارتر، فقط بالصورة التي تكشف تعقداتها وتشابكها، ولكنه ذاك التعقد الذي لا يَمنع من الإدلاء بوجهة النظر، مسؤوليةً تاريخية، لا يجبن عنها مع شديد تحرُّجِه من الخوض في زَبَد التاريخ، الذي يذهب جفاءً، مقتصرا على جواهر الأمور وإكسيرها، لتغذية العقل والعاطفة معًا. وإشاراته إلى ما في الواقع من التعقيد أول مراحل الفهم، ومنعٌ لقارئه من الانجرار إلى بادئ الرأي، وإنْ كان خُلَّبًا في إثارته، وبساطته الظاهرية. يكتب في زاوية "الرأي"، كيْ لا يعطيكَ رأيًا جازما، وإنما يدلك على جوانب ما كنتَ لتراها في جلبة الجدالات وعقمها القاتل.

وما يضفي على أسلوبه هذه الفرادة -إلى جانب جمالية تعبيره الأدبي- هو انفتاحه على آفاق المجتمع العالمي الرحبة، يتجول في ثنايا الآداب والفنون والثقافات من القارات الخمس استوت قريةَ فكرٍ واحدة، في اطلاعٍ مَوسوعي نادر، لا يضاهيه إلا رشاقة اختياراته للقضايا، وجلها من تفاصيل الحياة التي لا يغري شيءٌ بالتقاطها، وما ألطف العناوين التي يَنتقيها دلالةً على مظنة الجمال.

ويبدع عطاالله، أكثر ما يبدع، في نحت الأقصوصة، جنسٍ من الرواية أثيل ووَعرٍ، فهو يحول بعضَ مقالاته اليومية، رغم قصر مساحتها المتوفرة له، إلى لمحةٍ سردية، يحكي فيه قصة متكاملة العناصر من شخوصٍ وزمان ومكان وأحداث، في حبكة مُنغمةٍ تَستكمل ما به يكون الخطاب حكايةً أصيلةً. وهذا ما يَفعله حين يسلط خياله على المواد الواقعية، التي يستعيرها من أوقات الناس الاعتيادية وسَدَاها المألوف. وما أنجع التناصَّ في الكشف عن ثراء عوالمه، وبه تتملى تعاقبَ الخطابات وتزاحم السجلات في ذاكرات مقالاته، تأتيك سراعًا من الأدب الروسي بشخوص تشيخوف، والكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز أو كتاب روائيي فرنسا الجدد، في تناغمٍ يجعل نصه بمثابة المتاهة التي تتعدد فيها المرجعيات وتقتضي من القارئ الهيامَ في مجاهيل قراءاته الواسعة واطلاعه على عيون الأدب العالمي.

وفي صلته بالمكان افتنانٌ، حين يرتسم لديه مُدنًا عامرةً، سافر إليها أو هاجر، عبر من مَسالكها أو أقامَ في أحيائها، وتلك القرى النائية يتمَشَّى في ثناياها، أو عواصم العالم يجوس خلال جادَّاتِها الصاخبة، ويزدادُ السحر حين يحيل، بقلمه، تضاريس المدن وجغرافيا أهاليها سردياتٍ، فتصير مسرحًا لفكره الباحث عن الإنسان، يَستعذب من حكاياته تَفاصيلَ الحركات، وتثير لديه ذكريات عايَشها حين كانَ مراسلاً لكبريات الصحف، ينقل للقارئ العربي من مَرابع البسيطة أحداثها، ومن ضِياع البوادي والصحارى سحرها.

وتلخص عطاالله -الإنسانَ كلمةٌ واحدة: "الحَياء"، تجد له على الشبكة صورٌ معدودة، وتطمع في تساجيل تلفزية، ولا تظفر إلا بالقليل بَعد لأيٍ، ويُعييك الاتصال به واللقاء معه. ولا نكاد نعرف الكثير عن حياته الخاصة، ولكنه يُعَرِّفنا بالحياة منبعًا للعطاء والوعي، كما قدمها الفيلسوف برغسون. ولذلك آليت أن يكون مصدري الوحيد، فيما أكتب، نصوصَه ذاتَها، تناغمًا مع نظرية "موت المؤلف"، لرولان بارت، فنصوصه طافحة بإشاراتٍ لحياته الفكرية التي تتيه بك في آفاق الحياة.

ومن نعمة الحياة هذه يَستمد طاقته على العمل اليومي الدؤوب، يأتيه بانضباط النَّمل وجَلَدِه، نَسق من انتظام لا يكاد يَشرَكه فيه أحد من الكتاب المعاصرين، ولا يرهقه العمل أو يمسَّ من جودة ما يكتبه، ولا يَكذب قلمه في صياغة موضوعاته، ومن الطريف أنه كتب مقالاً سَمَّاه: "لا تَكذب" وَصف فيه حيرةً القلم، حين أعوزه الموضوع، فطارده من دون جدوى، وصارت المطاردة من آنق الموضوعات. هكذا، يَعُبُّ من تفاصيل التاريخ، تلك التي نظنها تافهةً فتتألق تحت قلمه منعرجًا وعبرةً ينتظرها مع قهوة الصباح آلاف القراء، في العالم العربي، يفتتحون بها يومهم، يلتهمون بريق الأمل الذي يشع، و يستمرئون نفحة الفجر تهب مع تصاريف قلمه.

وقد يضعف يومًا بعاطفة القَرَوي، تحت وطأة تأزمات السياسة ودناءة تغير التحالفات فيها وما أقساها، ولكنه لا يسفُّ، ولا يجفُّ منه القلم، فلا يخضع إلا بما يُرضي ضميرَه، ولا يكرر مألوفًا، ولا يتناسى معروفًا، كما لا تجره تفاهات التاريخ الصغير، بل يصدها ويقومها لاذعًا في سخريته، حَيِيًّا في نَقده. وهل يشكل مدرسة؟ أسلوبه من خامة الذي لا يُقلَّد، ولا يتأتى تقليده، وفيه من الصنعة التي لا تتاح لكلِّ أحدٍ.

أكاديمي- فرنسا، جامعة لوران.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم