الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كانّ 70 - "120 دقّة في الدقيقة": من القلب إلى القلب

المصدر: "النهار"
كانّ 70 - "120 دقّة في الدقيقة": من القلب إلى القلب
كانّ 70 - "120 دقّة في الدقيقة": من القلب إلى القلب
A+ A-

ثمة دائماً في كانّ (١٧ - ٢٨ الجاري) ذلك الفيلم الذي يهتف له القلب ويهزّ الأرواح. عادة يقفز علينا، يعانقنا بلا موعد مسبق، في أيّ لحظة. فقط في كانّ تتولد هذه الحماسات تجاه أفلام معينة، وتستمر فترة طويلة بعد إسدال الستارة على الحدث. "حياة أديل"، فيلم عبد اللطيف كشيش المُسعَّف العام ٢٠١٣، عُرض ثلاثة أيام قبل الختام، أي بعد أكثر من أسبوع على بداية كانّ، عندما كنا بدأنا نفقد الأمل بوضع اليد على الفيلم الذي يستحق أرفع تتويج في أرفع منبر. هذه السنة، بدأت المسابقة ضعيفة، ولكن سرعان ما هيمن عليها فيلم المخرج الفرنسي روبان كامبيّو المدهش، "١٢٠ دقّة في الدقيقة"، أحد الأفلام الفرنسية الأربعة في المسابقة الرسمية. كامبيّو سبق أن أنجز "صبيان شرقيون" عن رجل خمسيني يستعين بخدمات “اسكورت”، قبل أن يقتحم رفاقه شقّته وينكّلوا به. كامبيّو، للتذكير، كاتب ومونتير بعض أفلام لوران كانتيه الفائز بـ”سعفة” كانّ العام ٢٠٠٨” عن "بين الجدران”. “١٢٠ دقّة في الدقيقة”، إنجاز سينمائي باهر وقعنا تحت سحره، وبات مؤكداً أنّ على اللجنة أن تحسب حسابه ضمن لائحة الجوائز التي ستُمنح في نهاية هذا الأسبوع. 

الفيلم بات نجم الـ”ويك اند” الأول من التظاهرة التي تحتفي بدورتها السبعين، وفاز بأعلى تقدير في مجلة "الفيلم الفرنسي” حتى كتابة هذه السطور. تعود بنا الحوادث إلى التسعينات، إلى ذلك الزمن حيث كان السيدا داء خطيراً يحصد ضحاياه. إنّه زمن النضال من أجل المطالبة بعلاج طبي مقبول لمرضى السيدا. الفيلم ينطلق من جمعية الـ”آكت أبّ” التي يفرد لها الفيلم مساحة كبيرة في جزئه الأول. فهذه الجمعية (فرع فرنسي من جمعية تحمل الاسم عينه ولدت في أميركا) تتكفّل نشر الوعي حول صراع المرضى المصابين بالسيدا والتعريف عن الشرائح الاجتماعية الأكثر عرضة لها (مدمنون، مثليون، عاملو جنس، إلخ). تحركاتهم تتّسم بشيء من الترهيب. كلّ الشخصيات، من صبايا وشباب مثليين وسحاقيات مصابين بالسيدا أو حاملين محتملون لفيروسها، تذوب في النضال الجمعي العنيف والراديكالي. هذه الأجواء يعرفها جيداً المخرج كونه كان أحد أعضائها وعاش التفاصيل عن كثب، حتى أنّ أصدقاء له ماتوا نتيجة إصابتهم وتولى بنفسه إيصالهم إلى عتبه النهاية. ذوبان الشخصيات يولد لحمة جديدة، ومنها يتشكل جسد جديد في الحرب على الوباء. يعيدنا الفيلم إلى حقبة كانت الأمور فيها أصعب. حقبة ذهبت أدراج الرياح وطواها النسيان والانشغال بأمور أكثر “مصيرية”. في النهاية، ذاكرة البشر قصيرة وعلى #السينما ألا تُلهي فحسب، بل أن تفتح الجراح. الحصول على نتائج الفحوص من المختبر، لفت انتباه وسائل الإعلام… هذا كله احتاج الى درجة عالية من التأهب والاعتراض على الطريقة الفرنسية الثورية. لذا، الساعة الأولى من الفيلم ليست سوى سجالات ومناكفات وجدالات طويلة نابعة من وجهات نظر مختلفة حول صراع واحد. ترى ما هي الأساليب التي تضمن الوصول إلى نتيجة مرضية وأخلاقية؟ هل رمي وحدات دم غير حقيقية على أصحاب القرار أو السياسيين غير المتعاونين أو الهوموفوبيين أو حتى الجمعية الفرنسية لمكافحة السيدا أمر مقبول؟  

ينبغي التذكير بأنّ الفيلم تدور أحداثه في زمن الرئيس فرنسوا ميتران، وهو نوعاً ما نقد لعهده. مريض السيدا في هاتيك الأيام كان لا يزال إنساناً غير مرغوب فيه، صوفته حمراء، يعيش في “الخفاء” بعيداً من الأنظار. التضامن بين البشر هو الذي سيشرّع باب التغيير وصولاً الى أن يتم قبولهم. روبان كامبيّو يروي هذه القصة بمصارينه. واضح منذ البداية أنّ علاقته بموضوعه عضوية (كتب السيناريو مع المخرج فيليب مانجو الذي ترأس حركة “أكت آب” في أواخر التسعينات)، كل لقطة مُحملة بكمّ هائل من الحنان والعطف، ولكن أيضاً بغضب وريبة. ينتقل النصّ إلى مراحل تطور عدّة، فيصبح فردياً بعدما كان جماعياً لأكثر من ساعة. إثنان ينفصلان عن المجموعة: شون (ناهويل بيريز بيسكايار) وناتان (آرنو فالوا). الأول مصاب والثاني لا. يصادر الفيلم هذين في جزئه الثاني ليصبح نوعاً من توثيق عن القلق الذي يعيشه جيل كامل. ثم، ننزلق تدريجاً في حميمية هذا الثنائي. فتحت الوسادة الكثير من الحب والعناق والجنس… 

ببراعة يد لا مثيل لها، يزاوج كامبيّو العام بالخاص، النضال من أجل الآخرين بالنضال من أجل البقاء على قيد الحياة. من المستحيل عدم ذرف دمعة أمام مشهد نهر الدم الذي يعود في خيال شون المحتضر. فعندما تكون التجربة الشخصية للمخرج على هذا القدر من البلاغة، لا بد أن تنعكس على الشاشة. كامبيّو يعرف عمّا يتكلّم، فهو انخرط بهذا النضال في صباه. خلال المؤتمر الصحافي، روى أنّه في أحد الأيام اضطر إلى أن يلبّس جسد رفيقه العاري وهو على فراش الموت. “١٢٠ دقة في الدقيقة”، نموذج صارخ للفيلم الذي ينطق سياسة ونضالاً، لكنه لا ينسى أنه فيلم سينما في المقام الأول مع كل ما يتضمّنه من اشتغال على المشاعر والصورة واللغة والموسيقى والتمثيل، حدّ أنّه من بين كلّ ما شاهدناه إلى الآن، يسعنا القول إنّه الأقرب إلى الكمال السينمائي. كان يمكن كامبيّو الاكتفاء بالرقص على القبور، ولكن في النهاية يُرقّصنا على دقات قلبه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم