الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

جو كوكس... ضحية إرهاب لا يُسمى إرهاباً!

سوسن أبوظهر
جو كوكس... ضحية إرهاب لا يُسمى إرهاباً!
جو كوكس... ضحية إرهاب لا يُسمى إرهاباً!
A+ A-

في حياة قصيرة أنجزت الكثير. ابنة أسرة فقيرة في باتلي، حققت سابقة في دخول جامعة كامبريدج بمنحة والتفوق فيها. في تلك البيئة النخبوية، خاضت تجربة صقلت وعيها السياسي. بذلت مجهوداً كبيراً للاندماج والتأقلم والاحتفاظ بطبيعتها البسيطة، وقررت منذ ذلك الحين أنها ستبذل كل ما في وسعها لتساعد الآخرين ألا يشعروا بالغربة في مكان جديد.
اسمها جو ليبدبيتر، وتبنت لاحقاً كنية زوجها، فصارت جو كوكس. ويقول أصدقاؤها في المرحلة الجامعية وشركاؤها في السكن أنها كانت شديدة النضج في سن مبكرة. تصرفت على الدوام كأن لا وقت لديها تضيعه، فهي تريد تغيير العالم وتنشد تحقيق ذلك بسلاح القيم الأخلاقية والإنسانية ولا شيء آخر.
تلك الحياة الغنية انتهت عن 41 سنة، بثلاث رصاصات وطعنات عدة في وضح النهار. ردد القاتل "بريطانيا أولاً" مرتين على الأقل وهو ينفث حقده في جسد كوكس، معاقباً إياها على التزامها الإنساني الذي قادها إلى مناصرة القضية الفلسطينية ومخيمات النازحين في أفغانستان ودارفور وأماكن أخرى وأدخلها مجلس العموم قبل سنة، لا طمعاً في منصب، بل دفاعاً عن الإنسان.
"بريطانيا أولاً" هو اسم جماعة متشددة تأسست عام 2011 وتحفل صفحتها على "الفايسبوك" التي لها مليون ونصف مليون متابع، برسائل الكراهية تجاه المسلمين والمهاجرين وتدعو إلى طردهم من البلاد. وإلى أن يتحقق ذلك، تشدد على وجوب حظر الطقوس الإسلامية وإقفال متاجر بيع "المنتجات الحلال" ومنع الصلاة في المساجد. وقبل أشهر هدد زعيمها بول غولدينغ الذي خاض السباق إلى بلدية لندن وحل ثامناً بين 12 مرشحاً بالحصول على مئة ألف صوت، بدفن رأس خنزير نافق عند موقع مقترح لتشييد مسجد في دودلي. غير أن العاصة البريطانية سلمت قيادتها إلى صادق خان، المسلم ابن المهاجرين، في فوز تاريخي كبير لبرنامجه الحزبي، ولكن كذلك لشخصه بصرف النظر عن خلفيته وديانته التي يواظب على ممارسة شعائرها.
وتصف الجماعة المناهضة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي نفسها بأنها "حزب سياسي وطني ومنظمة للدفاع الذاتي". وتتباهى بأنها تقيم معسكرات تدريب، آخرها في جبال سنودونيا على ما أوردت "وايلز أونلاين" قبل أيام. هناك يتعلم المشاركون الدفاع عن النفس والقتال بالسكاكين والأسلحة الخفيفة.
وفي إطار هذا الأفكار الانعزالية، لا بد في نظرها من إسكات "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، المنبر الإعلامي الموجود في كل قارة ولغة والمُتعهِد تحقيق المساواة الجندرية والعرقية في فريقه. وفي المقابل، يُرفع الإنفاق العسكري إلى حده الأقصى.
قال غولدينغ إن القاتل لا ينتمي إلى جماعته. وهو إذ أدان الجريمة، بدا كأنه يستنكرها لفظاً لا مضموناً ويجد تبريرها لها، معتبراً أن طوماس ماير المتأثر بشعارات النازية الجديدة، ربما قصد أن الوقت حان لتكون بريطانيا أولاً حقاً. كأنه يزعم أن كوكس لم تراع مصالح بلادها حين ناصرت اللاجئين السوريين.
وأمام المحكمة، كرر ماير موقفه من دون أن يرف له جفن. فحين سئل عن اسمه، أجاب :"الموت للخونة، والحرية لبريطانيا".
الحرية ممن؟ من أمثال صادق خان والبارونة وارسي وساجد جاويد؟ من ثلاثة آلاف طفل لاجئ استقبلتهم بريطانيا؟ عن هؤلاء، تحدثت كوكس في مجلس العموم. قالت :"إن العائلات السورية تجد نفسها مضطرة لاتخاذ القرار المستحيل، إما البقاء ومواجهة التجويع والاغتصاب والملاحقة والموت، أو الذهاب إلى رحلة المجهول في محاولة لإيجاد مأوى ما. من يستطيع لوم الآباء والأمهات اليائسين على رغبتهم في الفرار من الأهوال التي يواجهونها مع أبنائهم. الفرار من واقع أن الأولاد يُقتلون في طريقهم إلى المدرسة، وأن آخرين يُجندون بعمر طري مثل السبع سنوات للقتال، وأن ولداً سورياً من ثلاثة لا يعرف أي حياة خارج الخوف والحرب. هؤلاء الأولاد شهدوا فظائع لا يجب أن يعرفها أي طفل. وأنا شخصياً كنت لأخاطر بحياتي لأُخرج طفلَي من هذا الجحيم".
وبعد أشهر من انتخابها في أيار 2015، أسست كوكس مجموعة "أصدقاء سوريا" من أعضاء في مجلس العموم. وضغطت مراراً على الحكومة البريطانية لحماية المدنيين والتدخل لإنهاء الأزمة. وحذرت مراراً من أن استمرار النزاع سيدفع المزيد من السوريين إلى أحضان المتطرفين أو عصابات تهريب البشر.
حتى الآن لا يوصف مهاجم كوكس بأنه إرهابي، مع أنه لا يختلف في شيء عن قاتل الشرطي الفرنسي وشريكته في باريس قبل أيام. بلى يختلف، طوماس ماير أبيض وليس أسمر البشرة، بريطاني وليس ابن مهاجرين مسلمين. وهو قطعاً ليس مختلاً عقلياً، بل شديد الوعي والإدراك لما أقدم عليه، بدليل الهتاف الذي ردده لدى ارتكاب الجريمة وأمام المحكمة. الخيانة في نظره هي التعاطف مع الآخر ومد يد المساعدة له.
عنه وأمثاله وضع الناشط براندون كوكس، زوج جو، بحثاً عن تنامي المشاعر العنصرية والعداء للمهاجرين قبل أسابيع من ذهاب حب حياته ضحية للكراهية، وقد أعاد نشره بعد رحيلها. قال إن السياسيين عموماً، وبعدما أخذهم على حين غرة صعود الخطاب الشعبوي المنظم المناهض للاجئين، لجأوا إلى استعارة مفرداته، وأدى ذلك إلى تقوية اليمين المتطرف بدل إضعافه. وأضاف :"يعتريهم الهوس بالأرقام بينما عليهم التركيز على تعزيز فرص العدالة والمساواة. إن سياسة الحكومة البريطانية متفوقة في تحويل الأزمة إلى مسار خاطئ". وأشار إلى أن القوى المناهضة للاجئين تصب طاقاتها حصراً على المسألة، في حين تفتقر الهيئات الداعمة لهم إلى التمويل والحضور القوي على مواقع التواصل الاجتماعي ولا تعي أهمية التركيز على الملف دون سواه.
ودعا الزوج المكلوم إلى "التوحد لمواجهة الكراهية التي قتلتها. الكراهية لا تملك عرقاً أو ديناً. إنها سم". وأضاف :"آمنت جو بإمكان قيام عالم أفضل وقاتلت في سبيله كل يوم بطاقة لا تنضب وحب للحياة لا يملكه كثيرون. لم تكن لتندم على أي شيء في حياتها". لكن يبقى لديها أحلام حال القاتل دونها وتعهد العمل لتحقيقها، وبينها قيام تحالف دولي، مدني غير سياسي، يواجه الفقر وعدم الأمان الاقتصادي الذي يستغله اليمين المتطرف لبث شعاراته العنصرية. هكذا يُواجه الإرهاب.
[email protected]
Twitter:@SawssanAbouZahr


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم