الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"السفير" ماضٍ لا يمضي

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
كان ذلك اليوم غريباً. مانشيت "السفير"، وداعية. لا غدٌ غداً ولا بعده. أُسدلت الستارة. تماسكنا. افتعلنا ضحكة بمرارة. ما أفدح هذا الوداع. الجريدة لاذت بصمت، ولا أحد يسأل عن الأسباب.
 
احتفال الوداع، التأم فيه الجميع، في المطبعة فقط. غنّينا، صفّقنا، دبكنا، تصافحنا. كان ذلك اللقاء، احتفالاً فرحاً، بحزن مكبوت. العيون جاهدت كي لا نفرّط بالدمع. وما آذن الليل أن يأسر المكان. تحوّلت الكلمات الى رماد، والأصوات الى غصة.

أقفلت "السفير" عمرها. شيء في الروح انطفأ. لم يعد الليل مشغولاً، عتمة. صمت. وحشة وهمهمات. أمسنا الجديد، على مدى عقود، هو وحده الباقي وحيداً. نعود اليه، كي نقرأ حقبة صعبة، ولادة عنف ودماء وتراجع انتصارات بائسة، وأحلام خائبة. أنحا ظل ذلك الشعار ضوءاً. "السفير" صوت الذين لا صوت لهم. تلك كانت مشقة الإلتزام، بأثمان باهظة. وكالعادة، تنال الصحافة وكتّابها، الحصة الكاملة من الاغتيال. مَن مِن الصحف في لبنان والمجلات، لم يدفع ثمن الحبر رصاصاً وقتلاً وتفجيرا. "السفير"، كانت حصتها جريمة محاولة اغتيال طلال سلمان.
 
ليست وحيدة، النهايات قرعت أبواباً ثم أغلقتها. وهي اليوم تقرع الأبواب لسفيرها. الصحافة في لبنان مأزومة، إنها مسألة لا حل لها. للحرية ثمن، يُدفع بكواتم الصوت، والتهديد، والحصار. وعليه، لا غد لصحافة حرة عن جد، حرة بجدارة، حرة بمخاطرة محسوبة. العتمة كالحة. لا ضوء إلا بثمن بالغ: "كن على هوى". أي، تعامل مع الحقيقة المناسبة لجمهور، ولو كان ذلك هشاً أو تحريضاً أو نقيضاً للحقيقة.

هذه مناسبة، نستعد فيها لممارسة الصمت أمام الحقائق. بشيء من الصدقية الموضوعية انطفأ. إذا كنت تريد الاستمرار، فما عليك سوى أن تدفع غالياً ثمن بقائك. الحرية، خطيرة، لذا فهي ممنوعة، والقلم بلا حرية طعنة في الحقيقة.

"السفير"، عاندت الاقفال مراراً. عملت ليومها كأنها تعيش معاناة الإقفال، تلطخت. كان مقرراً أن تدخل في صمت قبل شهور. حزننا كان شاقاً. لكنه، ذلك المتمرد على الزمن، أصرّ على إبقاء "السفير" حية... رهان خاسر. بعد أشهر، احتفلنا بالوداع.

ليس غريباً ذلك أبداً. صحافة بلا موارد. صحافة بلا إعلانات. اعلانات منحازة. كلفة هائلة، تضاعف المساعدات التي يمكن بلعُ شروطها، انتفت. باتت المساعدة تعني إملاء وخضوعاً، وخوض معارك المحاور. هذا المرض لا علاج له.

"السفير" راهناً، هي بيت بأبواب متعددة. ماضيها لا يمضي. زوارها طلاب وأساتذة وكتّاب. ارشيفها موضّب وسهل التناول. سهر الخلف على إعادة إنتاج "السفير"، لتصبح مرجعاً ليوميات لبنان، التي، بكل أسف، صارت تنبّه آلام واقعنا. "السفير"، منصة مرجعية. لم تصر رماداً، ومن مثلها، مثل الصحف التي يزخر تاريخها، بذاكرة شعب ومنطقة، لأن صحافة الإقليم، مقيدة ولا تزال.

صعب أن تقول إنك صحافي في بلد يقاتل ويطارد الحرية، ويسجن الأحرار، المطلوب اليوم من الصحافة أن تكون، إما بلا لون، أي بلا حياة سياسية، أو أن لا تكون.

هل المستقبل ممكن؟ أعرف أن هناك موتاً يتكرر. الموت الحاضر يسمح بالعيش بحرية بلا أجنحة ولا حبر. المهم أن يظل الصحافي حكيماً لا حاكماً، صادقاً (قدر الإمكان) لا كاذباً، وأن يصر على استقلاليته بصدقية صافية.

علينا أن نعتاد جرأة القول. قل كلمتك وأمشِ. وإن كان ذلك مستحيلاً، إلجأ الى الصمت. تكلم بالرمز.

الصحافة مملكة، يجب ألّا تكون مملوكة، من جانب المال وشياطين السياسة.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم