الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

لا أجوبة بل الكثير من الأسئلة

المصدر: "النهار"
ولكن هل نحن قادرون على تحقيق وثبة نوعيّة تنقل لبنان إلى حيث لم يكن للمنظومة المهيمنة بكليّتها أن تتخيّله؟ (أ ف ب).
ولكن هل نحن قادرون على تحقيق وثبة نوعيّة تنقل لبنان إلى حيث لم يكن للمنظومة المهيمنة بكليّتها أن تتخيّله؟ (أ ف ب).
A+ A-
بشار الحلبي*
 
منذ قرابة الشهرين تواصل معي المعنيون في جريدة النهار ليخبروني عن رغبتهم إصدار عدد يقارب المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وربما الطائفية والدينية التي تعصف في البلاد، مقاربة مختلفة عما هو سائد، وتعطي القارئ المحلي والإقليمي وربما الدولي جرعة من الأمل في خضم الظلام الحالك الذي أرسى بثقله على لبنان حقيقةً ومجازاً.

المطلوب كان تقديم اقتراحات حلول تقنية تعالج الخلل الحاصل في نظامنا السياسي وبنية الحكم والأساليب المتبعة، من دون اختزال الأوضاع القائمة أو الجنوح باتجاه الكلام المعلوك ذاته الذي يتكرر منذ عقود عند معالجو هذه الأزمات. وغالباً ما تجسّد هذا الأمرمن خلال إلقاء التهم على الآخر أو عبر منحىً تبريريا تتحكم فيه الغريزة الطائفية التي تريد إظهار تقدّم نموذج حكم طرف على آخر خلال مرحلة تصدّره البلاد. فأغلبنا سقط في فخ النوستالجيا لمرحلة تصورناها في ذهننا على أنها الأنسب للبلاد أو لرؤيتنا للبلاد والدليل على ذلك هو النقاشات التي ما زالت مستعرة على وسائط التواصل الاجتماعي وشاشات التلفاز حتى لحظتنا هذه.

منّا من يحلم بكميل شمعون جديد؛ ومنا من يمجّد دولة المؤسسات التي أطلّت برأسها لبرهة خلال مرحلة الشهابية في لبنان؛ وآخرون يعتبرون أن "التركيبة" التي طغت على مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات كانت الأنسب ليعيش لبنان مرحلة من البحبوحة والريادة في المنطقة "قبل أن يتآمر عليه البعض". وبعضنا يترحّم على التعويذة السياسية التي أرساها العرب والمجتمع الدولي في فنرة ما بعد مرحلة الحرب الأهلية والتي أتت بالوصاية السورية من جهة والحريرية السياسية من جهة أخرى والتي يسوّق لها على اعتبار أن لبنان شهد خلالها نموا اقتصاديا وجذب الاستثمارات والسياح. واليوم هناك من يمجّد نموذج "المقاومة" الذي بات يحكم البلاد بأذرع متشعّبة ومعقدة ويستند إلى شعور بالتفوق وفائض القوّة مما يخلّف تحت أضراسه (after taste) من الكرامة والعزة والعنفوان تسمح له ــ برأيه ــ مقارعة الإمبريالية. وهذه المقارعة المتوهمة تساعد الممانعين بالاستعاضة عن رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية لحكم البلاد. فمن يواجه الإمبريالية لا وقت لديه لخطط اقتصادية وتنموية، بل حلوله تستند على زراعة البطاطا وتصديرها وزراعة شرفات المنازل وإعادة استعمال الفوط وحفاضات الأطفال.

ولكن إذا تمعّنا جياً بكل تلك الحقبات لرأينا فعلا اختزاليًا كبيرًا ممن يشير إليها على أنها الأفضل ولوجدنا أن نجاحها هو محض أوهام أو نفخٍ بواقعٍ لطالما كان أقل تواضعًا وأكثر إجحافًا بحق ولو جزء من اللبنانيين. فجميع آليات الحكم التي تعاقبت على تلك الحقبات وجميع الاتفاقيات التي أرست أسس الحكم كانت ولّادة لانفجارات وأزمات حادّة حتى بات من الطبيعي وشبه المؤكّد عند الجميع أن لبنان يعيش تاريخه بدورات زمنية خمسة عشرية (١٥) تفصل بين الانفجار والآخر. فبعد استقلال ١٩٤٣ أتت مواجهة ١٩٥٨ ومن ثم انفجار الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ فإتفاق الطائف ١٩٨٩ وتلزيم البلاد، ليأتي بعدها إغتيال رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ انتهاءً باللحظة التشرينية عام ٢٠١٩، جميعها محطات تقف شواهد على ذلك.

لذلك بعد التفكير والتحميص بما طُلب مني من إدارة التحرير تجلّت أمامي شبه استحالة المهمة خصوصًا وأن بلادنا لا ينقصها الخبراء والمتعلّمين ولا الخيال ولا الإبداع لمقاربة الوضع الحالي بطريقة "تقنية" تحد من هول الانهيار وتعيد إنتاج علّة وجود البلاد وتؤمن للمواطنين والقاطنين على حد سواء الحد الأدنى من الخدمات والبنى التحتية وفرص العمل والأفق للتطلّع نحو المستقبل.

ما ينقص البلاد هو حلول جذرية سياسية قبل أي شيء، بعيدة كل البعد عن الوصفات التي اعتمدت منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى اليوم. حلول تقارب الهشاشة الاجتماعية الرهيبة التي تتحكّم بمفاصل الحياة اليومية، شئنا أم أبينا ومهما كابر الكثير منا على ذلك الواقع. فإذا أي طرح لا يأخذ بجدية ضرورة إنجاز عقد سياسي ـ اجتماعي جديد يأخذ بعين الاعتبار أحوال الطبقات الاجتماعية والجماعات الدينية الإثنية (أي الطوائف) والتداخل فيما بين الفئتين فمصيره الفشل. وفي منشور للكاتب اللبناني وسام سعادة على موقع فيسبوك تلخيصًا لحال الأمور، يقول: "عيش مشترك على حساب الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات العامة والخاصة، والعلمانية، ومرتكزات التنوير، والعدالة الاجتماعية والجندرية، واللامركزية الشاملة وحيوية المبادرات الاهلية المحلية، وحرية وازدهار العمل النقابي والتعاوني، ومقومات الاقتصاد الاجتماعي والمستدام، والتنوع الحيوي والبيئي، هو عيش مشترك كمثل هذا (اللا) عيش".

أما بالحديث عن الأفق، فيبدو أننا وصلنا للحظة انسداد رهيبة ونعيش حالة مسعصية خصوصًا وأن المكوّنات المسؤولة عن هذا الاستعصاء ما زالت موجودة ومتحكّمة وقادرة وفاعلة وقوية، وأكبر دليل على ذلك هو ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بمكوّناتها وبمحاصصاتها بأبعادها الإقليمية والدولية. فحكومة ميقاتي بعمقها تمثّل انهزامًا كبيرًا لنا كقوى معارضة في البلاد من جهة، وجرعة أوكسيجين لمكوّنات النظام السياسي اللبناني الذي يعد العدة لإعادة إنتاج نفسه ومشروعيته أمام العالم في الانتخابات النيابية المقبلة.

وفي ظل استعصاء الحلول الجذرية يرتّب علينا الواقع السياسي اليوم القيام بعدة أمور على مستويات مختلفة؛ أولها إعادة تقييم هذا الواقع ومراجعة نقدية لانحسار الموجة الشعبية والخطاب السياسي الجديد الذي حضر بقوة في اللحظة التشرينية. وتقييم الواقع ينعكس بداية بفهم الإمكانات العملانية الموجودة أمام القوى المعارضة بعيدًا عن حصرية المشروعية الثورية كمصرف مركزي يصرف منه عند الحاجة دون الارتقاء لمرحلة الفعل السياسي عبر التخطيط والتنظيم وتقديم الرؤى والمشاريع التي على أساسها تتم عملية الاستقطاب في لحظة

الانهيار المديد التي نعيشها. والمراجعة تحتم قبول الواقع، ليس من باب التطبيع معه، إنما من أجل بلّورة آليات مقاومة جديدة لمواجهته وتغييره. ومن هنا، ورغم صوابية شعار "كلّن يعني كلّن" وفعاليته بالمواجهة السياسية مع أركان النظام، إلا أن امكانية إلغاء هذه القوى مهمة باتت شبه مستحيلة حتى إشعارٍ آخر، ولكن عوضًا عن محاولة اجتثاثها من خلال خوض مواجهة سياسية غير متكافئة معها ووفق الشروط التي تضعها هي، فلماذا لا نحاول الالتفاف عليها من جهة مستندين لعامل الوقت كسلاح مصوّب عليها.

قد يعتبر البعض أن الاستناد إلى عامل الوقت هو نوع من الانهزام والتسليم لمشيئة الدنيا، لكن واقع الحال أظهر لنا أن حلم التغيير الثوري في بلادنا من خلال مد شعبي أو جماهيري انهزم أمام واقعٍ بلد من يحتكر العنف فيه هي تركيبة الحكم ذاتها ولو بنسب وقدرات مختلفة. التنظيم والتخطيط طويل الأمد قد يسمح بفتح ثغرات في الانسداد الذي نعيشه ومن هنا تصبح الانتخابات النيابية المقبلة تفصيل صغير في المشهد العام، إنما تمرين يستحسن خوض غماره ولكن بتطلعات واقعية.

ولكن هل نحن قادرين على تحقيق وثبة نوعية تنقل لبنان إلى حيث ما لم يمكن للمنظومة المهيمنة بكليتها أن تتخيله؟ هل يمكن إعادة إنتاج فكرة لبنان على أسس الحرية والديمقراطية والمدنية في محيط تهيمن عليه الأيديولوجيات الإقصائية القاتلة؟ هل يمكن المحافظة على لبنان الذي أورثنا إياه الجيل المؤسس؟ أم أن الوطن الأمة أصبح يفتقد مقومات الوجود؟ هل من إمكانية لتحقيق نهوض إقتصادي وإعادة بناء الإقتصاد الحر على أسس التنافسية والعدالة الاجتماعية؟ هل يمكن لنا أن نسقط جدار الخوف من شبح القاتل الذي الذي يخيم على بيروت ويكبس أنفاسها؟ هل يمكننا تحرير البلاد؟ هل البلاد نفسها ما تزال ممكنة؟ أسئلة كثيرة نطرحها وعلينا طرحها. علينا ألا نخشى المقدرة على إيجاد الجواب بقدر ما علينا أن نحافظ على مقدرتنا على طرح الأسئلة الإشكالية، وربما هي وسيلتنا الوحيدة المتبقية لمقاومة ذاك الكابس على أنفاسنا والقابض على أحلامنا بوطن حر وشعب سعيد. قد لا نمتلك الأجوبة، لكننا سنستمر بالمثابرة على طرح الأسئلة التي ستذكرنا، نحن المبعدون قسرا والمهجرون عنفا والمقصيون قصدا، ما نزال نمتلك حقنا بالأمل. 
 
 
* The writer is a Lebanese activist and the senior Geopolitical Analyst for the Middle East and North Africa at ClipperData Analytics, NYC. His published work focuses on Lebanese politics and regional geopolitical-related developments. He is the author of Human Rights and the Arab Spring: The Cases Of Tunisia And Egypt (St. James's Studies In World Affairs).

Bachar was previously a scholar at the American University of Beirut and the program coordinator for movements of civil society in the MENA at the Asfari Institute for Civil Society and Citizenship. He also served at the Special Tribunal for Lebanon (STL), the Trial Chamber, and as a journalist / MENA analyst at the international news station France24 in Paris."
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم