وقفات "النهار"الرئيس الشهيد بشير الجميل من الصعود حتى الاستشهاد في 14 أيلول (سبتمبر) 1982

العالم العربي 14-09-2025 | 14:14

وقفات "النهار"الرئيس الشهيد بشير الجميل من الصعود حتى الاستشهاد في 14 أيلول (سبتمبر) 1982

وقفات "النهار"الرئيس الشهيد بشير الجميل من الصعود حتى الاستشهاد في 14 أيلول (سبتمبر) 1982
وقفات "النهار"
Smaller Bigger
إعداد: لوسيان شهوان

بشير الجميل (1947-1982)

" نريد رئيساً تأتمنه المقاومة اللبنانية على إنجازاتها ومكاسبها فلا يستعملها للمقايضة بل للمواجهة، نريد رئيساً وقف ولو لمرّة أمام قبر شهيد، رئيساً ينقل لبنان من حالة التعايش مع الأزمة ومشاريع الحلول إلى حالة الخروج من الأزمة وفرض الحلول".
- الرئيس بشير الجميل


عندما صعد إلى القمّة، صعدت معه المقاومة اللبنانية فكانت "القوّات"، وعندما سقط شهيداً هوَت أفكار البشير وتأجّل تحقيق حلم الجمهوريّة. إنه الشاب الديناميكي والذكي والمبادر، صاحب القلب الشجاع الذي تعامل مع الخطر في كل محطّات حياته وغلبه في انتصاره على مقاليد الزعامة الضيّقة التي لا تقل خطورة عن مواجهات الحديد والنار؛ قائداً سرمدياً في وجدان كل من آمن بتجربته.
 

بشير الجميل، إسمٌ يرافقه الموقف أين ما حلّ. في القضايا الصغيرة، له موقف ورأي ومبادرة، وفي القضايا الكبيرة حضر وفي جعبته حريّة لبنان وسيادته واستقلاله. إبن بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية وصغير عائلة مؤلّفة من ستة أولاد تربّوا في أحضان المسؤولية والإيمان والالتزام. ومن منطلقات العائلة صنع بشير الجميل ثورته الخاصة منذ نشأته في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 حتى موعد الاستشهاد في 14 أيلول (سبتمبر) 1982.


النشأة والبداية

أنهى بشير الجميل دراسته الثانوية في المؤسسة اللبنانية الحديثة واتّجه بعدها إلى الحقوق والعلوم السياسية مجازاً من جامعة القديس يوسف في عام 1971. وحلّ مدرساً لمادة التربية المدنية ثلاثة أعوام في المدرسة التي نشأ فيها تلميذاً. ذهب بعد ذلك إلى واشنطن حيث تابع دراسته شهرين وعاد إلى بيروت لممارسة المحاماة، وكذلك النضال السياسي والعسكري الذي بدأه مع اندلاع الحرب اللبنانية في عام 1975.

ثورة بشير الجميل المختلفة انطلقت من الاجتماع الأفقي الذي أراده سليل العائلة المتنيّة العريقة، فقرّر الانخراط والقتال في بداياته إلى جانب رفاقه في صفوف الكتائب اللبنانية، وتدرّج في القيادة مستحقاً كل ما حققّه من نضال وإنجاز وانتصار. بدأت علاقته بالمقاتلين الكتائبيين تتطوّر منذ الصغر، وخضع لتدريبات عسكريّة مكثفة حتى أصبح جاهزاً للمسؤولية، فكان في عام 1969 مسؤول قسم بكفيا ومعه نحو 100 مقاتل من الكتائب. في عام 1970، بدأ المسّلحون الفلسطينيون يوسّعون رقعة انتشارهم خارج المخيّمات منتهكين بذلك بنود "اتفاق القاهرة"، وتطوّر ظهورهم المسلّح ونقاط التفتيش التي وضعوها في المناطق المجاورة للمخيّمات، الأمر الذي أثار غضب الأهالي وأدى إلى صدامات معهم. ولعلّ أبرز حدث في تلك المرحلة كان اختطاف مسلّحين فلسطينيين بشير الجميل في منطقة الدكوانة ثماني ساعات.
 

في عام 1972، عُيّن بشير الجميل نائباً لرئيس منطقة الأشرفية. في الأشرفية، أسس بشير هيئة "أصدقاء الكتائب" في عام 1973 وبدأ حركة استثنائية في التواصل مع الأهالي، واستطاع بشخصيّته القريبة من الناس أن يستميل المئات من المتطوعين ليكونوا إلى جانبه في الكتائب.

وبعد تعيينه مديراً سياسياً لإقليم الأشرفية الكتائبي، كثّف نشاطه السياسي على مستويات عدّة، "شابٌ مُقنعٌ" في أوساط جميع مكوّنات المجتمع، مظهراً معرفة استثنائية في التعامل مع أهل الأشرفية. استطاع بشير الجميل أن يشخّص جيداً الأزمة اللبنانية آنذاك، وأظهر قدرة على نقل صورة تلك الأزمة إلى الناس فتكتلّ حول "قضيّته" وأفكاره المزيد من المؤيدين الذين اقتنعوا برؤيته. وبالتوازي مع التدريبات العسكرية التي ارتفعت وتيرتها داخل الكتائب بسبب احتدام الصدامات بين "الفدائيين" الفلسطينيين من جهة والجيش اللبناني ومعهم أهالي البلدات الرافضة للكفاح المسلّح من جهة أخرى، أتى دور العمل الاجتماعي مع تأسيسه "دار العمل" وبعدها "الهيئة الشعبية".

مع اندلاع الحرب اللبنانية في عام 1975، سيطر على بشير همّ الدفاع عن لبنان وكرّس حياته لتحقيق هذه المهمّة واستمرّ في عسكرة المجموعات القريبة منه إلى أن أسس فرقة الـ "ب.ج" التي قاتلت في "حرب السنتين". وبين معارك الكرنتينا والمسلخ في بداية عام 1976، وصولاً إلى الوسط التجاري في بيروت، تنقّل بشير في أزقة الخطر مقاتلاً ومشرفاً على بعض المجموعات القتالية، وفُجع آنذاك باستشهاد ابن شقيقته أمين أسود في معارك الأسواق. وفي العام نفسه، سقط مخيم "تل الزعتر" الفلسطيني في يد القوى المسيحية التي أرادت استعادة الموقع وإنهاء الجيب الفلسطيني في منطقة نفوذها، وكان بشير الجميل من بين أعضاء مجلس القيادة التي نسقت الهجوم على المخيم إلى جانب أعضاء من فرق "النمور" و"التنظيم" و "حراس الأرز". في المعركة، استشهد وليم حاوي الذي عاونه بشير الجميل، وكان نائباً له على رأس القوى الكتائبية، إلى أن تولى بشير رئاسة مجلس الأمن الكتائبي بعد استشهاد حاوي.

على سلّم القيادة

بعد معركة "تل الزعتر"، شعر قادة القوى المسيحية التي شاركت في المعركة بضرورة توحيد قواهم تحت جناح عسكري قوي. وفي 25 آب (أغسطس) 1976، وضعوا النظام الأساسي لهيكلية القيادة الموحدة تحت اسم "القوات اللبنانية" بهدف "تحرير الأراضي اللبنانية من جميع القوات الأجنبية". واجه التنظيم العسكري الجديد تحدّيات كبيرة بين مكوّناته أهمّها النفوذ على الأرض. أُريد لهذا التنظيم أن يكون عاملاً مكمّلاً لـ "جبهة الحرية والإنسان" التي تأسست في بداية العام نفسه، والتي تحوّلت إلى "الجبهة اللبنانية" في مطلع عام 1977، وقد حضر بشير الجميل عن "القوات اللبنانية" اجتماعات الجبهة عندما تعلّق الأمر بالقضايا العسكريّة وأهمّها خلوة سيدة البير التي عُقدت بين 21 و 23 كانون الثاني (يناير) 1977.

عارض بشير الجميل بشدّة تصرّفات جنود الجيش السوري في الداخل اللبناني، واستفزّته حواجز "قوات الردع" في مناطق نفوذ القوى المسيحية. فلم يتأخر في انتقادهم، وقاد اضراباً ضد انتشارهم في الأشرفية. وفي أواخر عام 1977، حاولت القوى المسيحية المنضوية تحت "مجلس القيادة العسكرية" ترتيب أوضاعها العسكرية من جديد، وكأنها بدأت تستعد لمواجهة الجيش السوري عسكرياً.

بدأ موقف بشير الجميل من السوريين ينتشر أكثر داخل البيئة المسيحية. وكانت الحوادث والصدامات مع الجيش السوري، ومنها اشتباكات الجيش اللبناني مع السوريين في الفياضية في شباط (فبراير) 1978 ونتائجها الدموية، تأكد موقف بشير وصوابه. وهنا كان الرئيس السابق للجمهورية سليمان فرنجية يبتعد تدريجياً عن القوى المسيحية الأخرى بسبب معارضتها سوريا، والتي ارتفعت وتيرتها واتجهت إلى صدامات على الأرض، وهذا ما عزز الشرخ بين فرنجية والكتائب، وأدى إلى اعتداءات نفذها عناصر المردة ضد الكتائبيين مع توسّع حضورهم في شمال لبنان، الأمر الذي استفزّ فرنجية أيضاً. وأبرز هذه الاعتداءات كان اغتيال القيادي الكتائبي جود البايع في حزيران (يونيو) 1978. حاول البطريرك الماروني آنذاك أنطونيوس خريش التدخل لمنع الفتنة، لكنه لم ينجح. وأتى بعد ذلك الردّ الكتائبي في إهدن مع قتل طوني فرنجية وزوجته وابنتهما ومجموعة من أتباع فرنجية.

في ليل 27 وصباح 28 حزيران (يونيو) من العام نفسه، نفذت مجموعة تابعة للجيش السوري مجزرة في القاع ورأس بعلبك وجديدة الفاكهة، راح ضحيتها 26 لبنانياً، بينهم كتائبيين. وفي الأول من تموز (يوليو) 1978، حصل اشتباك بين عناصر سوريين مع مقاتلي الكتائب في الأشرفية، وألقى السوريون آنذاك القبض على بشير الجميل ليُطلق سراحه بعد ساعات قليلة، الأمر الذي أشعل مواجهات عسكرية كبيرة بين الجيش السوري والقوى المسيحية. قصف الجيش السوري الأشرفية بالصواريخ والمدافع، واستخدم أهمّ أنواع القذائف لإخضاع البيئة المؤيدة للمقاومة اللبنانية وضرب الحالة الاعتراضية لسوريا التي أسسها بشير الجميل، لكنه لم ينجح، وصمدت الأشرفية بعد 100 يوم من القصف العنيف على المدينة. وكانت هذه المواجهات التي قادها بشير الجميل بنفسه في الميدان إلى جانب رفاقه برعاية الرئيس السابق كميل شمعون، نقطة تحوّل أساسية في مسيرة بشير ونشأة القوات اللبنانية. صعد بشير الجميل بسرعة إلى القيادة بعد حرب "المئة يوم"، وبدأ يمثل شيئاً من المستقبل الواعد في نظر مؤيديه، بسبب التزامه العميق ما كان يُعلن عنه. نجح بشير في المقاومة وفرض القوات اللبنانية لاعباً جديداً على الساحة، وثبّت بذلك حضورها في المعادلة الوطنية.

قدر القيادات الجدّية تقديم التضحيات الكبرى. وإلى جانب رفاق السلاح الذين خسرهم بشير في محطّات النضال العسكريّ، كان الموعد الأليم في 23 شباط (فبراير) 1980 باستشهاد ابنته مايا وثلاثة من مرافقيه في تفجير كان يستهدفه في طلعة العكاوي – الأشرفية. محاولة اغتيال بشير هذه لم تكن الأولى، وما كانت الأخيرة.

لم تهدأ عاصفة بشير الجميل على الرغم من عقبات كبيرة وضعت في طريقه. كان همّه المضي قدماً في النضال حتى تحقيق الأهداف العامّة التي تكلّم عنها خطيباً جريئاً على المنابر والتي لا تتعارض مع أهدافه الخاصة نحو السلطة والحكم. أراد بشير أولاً تخطي العقبات الداخلية داخل البيت المسيحي تحديداً، وكان يريد تنظيم السلاح داخل صفوف المقاومة اللبنانية وتوحيد البندقية. لا شك في أن الصدامات الدموية في عامي 1979 و1980 بين أبناء القضية الواحدة أتعبت بشير وغيره من قيادات تلك القوى، إلى أن أتى القرار في 7 تموز (يوليو) 1980 مع العمليّة العسكريّة التي قامت بها الكتائب اللبنانية ضد حزب الوطنيين الأحرار في منطقة الصفرا، لتحسم الأمر لصالح بشير الجميل قائداً عسكرياً وحيداً في المناطق المسيحية. يُسجّل آنذاك للرئيس كميل شمعون استيعابه الخضة الكبيرة التي حصلت، وحسّه بالمسؤولية الذي تقدّم على ردّات الفعل التي قد تؤدي إلى شرخ كبير في صفوف الجبهة اللبنانية.

الاستعداد للرئاسة

بعد توحيد البندقية، أراد قائد القوّات اللبنانية بشير الجميل وضع استراتيجية عمل للمرحلة التالية. من هنا أتى تكليفه أربع شخصيات آنذاك وضع هذه الاستراتيجية. وفي 6 آب (أغسطس) 1980، التقى أنطوان نجم وسمير جعجع وميشال عون وفؤاد أبو ناضر، الأربعة الذين كلّفهم بشير، في دير القطارة حيث مقرّ قيادة الشمال في القوات اللبنانية، التي كان قائدها آنذاك سمير جعجع. واستمرّت اللقاءات بالانعقاد وتوسّعت دائرة النقاشات أكثر حتى أتى موعد خلوة دير سيدة البير في 27 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه.

حضر في الخلوة إلى جانب بشير الجميل، البروفيسور شارل مالك الذي ترأس اللقاء ومعه مجموعة من المفكرين والمسؤولين الرسميين والنافذين ورفاق سلاح: سليم الجاهل، أنطوان نجم، زاهي البستاني، فادي أفرام، فؤاد أبو ناضر، إيلي حبيقة، سمير جعجع، أسعد سعيد، إلياس الزايك، بطرس خوند، جورج فريحة، جوزيف أبو خليل، جان ناضر، وميشال عون. كان الهدف من الخلوة رفع حظوظ بشير الجميل من صفر إلى نسب أعلى تخوّله الوصول إلى رئاسة الجمهورية لاستكمال إنقاذ الجمهورية وتحرير لبنان.

في المقابل، كان التوغل السوري في اتجاه البقاع يتوسّع، وأراد السوريون آنذاك السيطرة على بقع جغرافية في البقاع مثل مدينة زحلة. ومع مطلع عام 1981، بدأ السوريون بمحاصرة زحلة تدريجياً، فوضعوا المتاريس وأقاموا الحواجز على تخوم المدينة، وتحصنوا في مواقع عسكريّة شُيّدت بهدف الانطلاق بدباباتهم إلى داخل زحلة. وفي 2 نيسان (أبريل) 1981، لم يُرد أهل زحلة ومعهم بشير الجميل الاستسلام، فواجه الزحليون والقواتيون الهجوم السوري على المدينة، وصمدوا في وجه القصف والحصار، وكبّدوا السوريين خسائر كبيرة.

بعد ذلك، شهدت الأجواء البقاعية اشتباكاً جوياً بين المقاتلات الإسرائيلية والسورية، حيث أسقطت إسرائيل مروحيتين سوريتين. بعد هذا التطوّر العسكري الخطير، قرّرت القيادة السورية إدخال صواريخ أرض – جو روسية من طراز "سام" إلى سهل البقاع لتحقيق شيء من التوازن مع الإسرائيليين، الأمر الذي استدعى تدخلاً أميركياً لحلّ الأزمة ومنع تفاقمها.

ارتبطت الحوادث بعضها ببعض، وبدا الغرب مهتماً أكثر بلبنان، وأصبح ينظر بصورة مختلفة إلى القضية اللبنانية. ومع أحقيّة "القضية" والمطالب التي نادى بها بشير الجميل في لقاءاته مع الموفدين الدوليين، بدأت الثقة بشخصه تتعزز أكثر فأكثر في بعض دوائر القرار. وبين 3 و 15 تموز (يوليو) 1981، قام بشير الجميل بزيارة إلى الولايات المتحدّة الأميركية، واعتُبرت هذه الزيارة الأهمّ بين زياراته التي سبقت في أعوام 1977 و1978 و1979. ففي هذه الزيارة، كانت صورة بشير الجميل صورة الشخصية القادرة على حمل مشروع إنقاذي للبنان يخرجه من الأزمة الكبيرة التي وضع فيها منذ عام 1975. وكان بشير الجميل قد تلقى في آذار (مارس) من العام نفسه رسالة من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، معنونه: إلى "بشير الجميل – قائد القوات اللبنانية" وفيها اعتراف مباشر بالقوّات وببشير على أنها حالة وطنية تحمل أهدافاً سامية، كما تضمنت الرسالة دعم الولايات المتحدة الأميركية استقلال لبنان وتحريره. شجعت هذه الرسالة بشير الجميل والقوات اللبنانية على متابعة الطموح السياسي واتخاذ خيارات السلم والتعاون مع الجيش والحكومة.
في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1981، وفي الذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس حزب الكتائب اللبنانية في دير مار إلياس – أنطلياس، بدا بشير الجميل حازماً في الملف الرئاسي قبل أشهر قليلة من نهاية عهد الرئيس إلياس سركيس. وقف على منبر الكتائب أمام حشد كبير من القيادات السياسية والحزبية محدداً مواصفات الرئيس المقبل الذي يتمناه بشير في الموقع الأول، "رئيساً ينقل لبنان من حالة التعايش مع الأزمة ومشاريع الحلول إلى حالة الخروج من الأزمة وفرض الحلول".

انطلاقاً من هذا الخطاب الواضح، كان بشير الجميل يقدّم نفسه مشروع حلّ إنقاذي لجميع اللبنانيين. وفي مذكراته "الإنسان الوطن الحرّية"، يتطرّق الأباتي بولس نعمان إلى المسعى الذي قاده لإقناع أركان الجبهة اللبنانية بتبني ترشيح بشير الجميل لرئاسة الجمهورية. وفي أحد اجتماعات الجبهة، يقول نعمان إن الشيخ بيار الجميل عرض ترشيح الرئيس السابق كميل شمعون الذي شكر الشيخ بيار على اختياره. وكان لنعمان مداخلة في ذاك الاجتماع، إذ قال: "من دون شكّ، الرئيس شمعون هو الأكفأ والأفضل، ولديه من الخبرة والحنكة والشجاعة ما يجعله يقوى على كل الصعوبات. لكن من الخطأ أن ندخل إلى معركة الانتخابات الرئاسية منقسمين، ونحن لم نشف بعد من النزاع في ما بيننا. لدينا الآن الشيخ بشير، ابن المعاناة المارونية، وهو الوحيد القادر على حلّ الأزمة من خلال إرساء حكم مسيحي قوي، وكما أن الآخرين يواجهوننا اليوم بقوة موحّدة، يجب أن نواجههم بقوّة موحّدة، فإما أن يتنازل الشيخ بشير عن قيادة القوات اللبنانية للرئيس شمعون وإما أن نختار الشيخ بشير لرئاسة الجمهورية... صدقوني، لا أحد يستطيع الوصول إلى الرئاسة من دون المواجهة مع الشيخ بشير. في المقابل، عليه إذا شعر بأن حظوظه ضئيلة وأن الرئيس شمعون بالتالي أوفر حظاً، أن يحيد من الدرب، لكن القرار يعود إليه وحده. لذلك أقترح على الجبهة اللبنانية أن تختار الشيخ بشير الجميل مرشحا لها للانتخابات الرئاسية".

لكن الرئيس شمعون طلب استكمال البحث في موضوع الترشيح في الاجتماع المقبل، فيما أصرّ بشير الجميل على لقاء الرئيس شمعون في اليوم التالي، وكان اللقاء إيجابياً لناحية الموافقة على ترشيح بشير.

رئيس منتخب وشهيد

في تلك المرحلة، حدث الزلزال الكبير الذي تمثل في اجتياح إسرائيل للبنان، في اليوم الذي تلا محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف في 3 حزيران (يونيو) 1982. ففي 4 حزيران (يونيو)، بدأت إسرائيل بحشد جيشها على الحدود مع لبنان، وبدأت في 5 يونيو/ حزيران بالقصف والتوغل البرّي وصولاً إلى بيروت. لا شك في أن إسرائيل كانت تخطط من قبل لاجتياح لبنان، ولم تنتظر محاولة اغتيال سفيرها في لندن لاجتياح لبنان وضرب منظمة التحرير الفلسطينية بهدف إنهاء حضورها في لبنان، علماً أن مجموعة تابعة لـ "أبو نضال" هي من كان يقف خلف محاولة قتل السفير.

في المقلب الآخر، كان بشير الجميل وفريق عمله يسعون إلى تقاربات وطنية وأرادوا حشد تأييد واسع لترشيح الجميل قبل إعلانه الرسمي عن ترشّحه، وقبل جلسة الانتخاب. وبناء على الانفتاح الذي بدأه بشير بإتجاه المسلمين المعارضين لترشيحه، وجّهت المملكة العربية السعوديّة دعوة رسمية إلى بشير لزيارة السعودية، فكان ذلك بين 30 حزيران (يونيو) و 2 تموز (يوليو) 1982، وكان الهدف من ذلك تذليل الاعتراض السنّي على رئاسة بشير، والذي كان يمثله الرئيس صائب سلام. وفي 24 تموز (يوليو) 1982، أعلن بشير الجميل رسمياً ترشّحه لرئاسة الجمهورية من "بيت المستقبل"، متمسكاً بوحدة لبنان الذي أراده أن يبقى ضمن كل حدوده. وأعلن بشير عن تمسكه بالـ 10452 كيلومتراً مربعاً، واعتبر آنذاك أن صموده ورفاقه كان للحفاظ على لبنان ووحدة اللبنانيين بكل القيم التي آمن بها وارتضاها في عام 1943.

أتى موعد جلسة انتخاب الرئيس الجديد في لبنان. وفي 23 آب (أغسطس) 1982، أي قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إلياس سركيس، عُقدت جلسة الانتخاب في المدرسة الحربية بالفياضية، وحضرها 62 نائباً بينهم 19 نائباً من المسلمين. ولعب رئيس مجلس النواب آنذاك كامل الأسعد دوراً مهماً في تأمين النصاب. نال بشير الجميل في الدورة الأولى 58 صوتاً، فيما نال العميد ريمون إده صوتاً واحداً، وسُجلت ثلاثة أوراق بيضاء. لم يحصل بشير الجميل على الثلثين من الدورة الأولى، فأعيد الانتخاب في دورة ثانية نال فيها بشير الجميل 57 صوتاً مقابل 5 أوراق بيضاء. وبعد الانتخاب، جرى لقاء بين الرئيس المُنتخب والرئيس صائب سلام الذي لم يحضر جلسة الانتخاب وما كان يؤيد بشير، لكنه عاد وبدّل موقفه من بشير بعد اجتماع 11 أيلول (سبتمبر) الذي دام ساعات طويلة.

في مطلع أيلول (سبتمبر) 1982، كانت الدفعة الأخيرة من المقاتلين الفلسطينيين تخرج من لبنان بحراً. واستكمل الرئيس المنتخب آنذاك لقاءاته بالوفود الشعبية المهنئة من كل الطوائف اللبنانية. ولم يتأخر الرئيس بشير الجميل عن إعلانه مرّات عديدة أنه رئيس لكل اللبنانيين. وخلال أيام انتخابه الأولى، أعطى الرئيس بشير الجميل صورة عن الدولة القويّة، فالتقى أيضاً مسؤولين عسكريين وإداريين في الدولة وشدّد أمامهم على أهميّة القانون والمؤسسات، وكان يستفسر من كل واحد منهم عن أحوال إدارته، ولم يتأخر آنذاك في تقديم الدعم والنصائح.
 

استمرّ الرئيس بشير الجميل في لعب دوره رئيساً منتخباً، كما استمرّ أيضاً في متابعة نشاطه وحركته الطبيعية التي سبقت انتخابه. كان بشير الجميل يتردد إلى بيت الكتائب في الأشرفية في مواعيد ثابتة، وكان يصرّ على التزامها ولم يغيّرها. وفي يوم الثلاثاء 14 أيلول (سبتمبر) 1982، وفي أثناء زيارته لبيت الكتائب في الأشرفية، حصلت الكارثة الكبرى. دوّى انفجار كبير داخل بيت الكتائب، وكان بشير الجميل هو الهدف، فاستشهد الرئيس المنتخب ومعه 23 من رفاقه، وسقطت مع استشهاد بشير أماني وطموحات كبيرة انتظرها اللبنانيون طويلاً للخروج من أزمتهم في اتجاه قيام دولة تليق بهم وبمستقبلهم.

بعد عمليّة الاغتيال، أُلقي القبض على منفّذها حبيب الشرتوني، وتبيّن في ما بعد أن التحضير لهذه العمليّة استمرّ أكثر من عامين، تعاون الشرتوني طيلة هذه الفترة مع نبيل العلم. فالتحقيقات الأولية مع منفذ العمليّة حصلت في جهاز الأمن في القوات اللبنانية التابع آنذاك لإيلي حبيقة. بعدها، أحيلت قضية اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل إلى المجلس العدلي، وبعدها أصدر وزير العدل آنذاك قراراً بتعيين القاضي سعيد ميرزا محققاً عدلياً في هذه القضية. وبعد 14 عاماً على جريمة الاغتيال، وفي 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1996، أصدر ميرزا قراره الاتهامي بتوجيه تهمة اغتيال رئيس جمهورية لبنان بشير الجميل إلى نبيل فرج العلم، رئيس شعبة الأمن في الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى عام 1982، وحبيب طانيوس الشرتوني، العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الفارَّين من وجه العدالة (الأول لعدم تمكن القوى الأمنية من توقيفه في الأساس، والثاني لتمكّنه من الهرب من سجن رومية إثر حوادث 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990). وفي 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2017، أصدر القضاء اللبناني حكماً غيابياً بالإعدام بحقّ الشرتوني، بعد إدانته بقتل الرئيس الشهيد. كما أنزلت المحكمة أيضاً حكم الإعدام غيابياً بحق العلم بعد إدانته بالتحريض على ارتكاب الجريمة. كذلك، اتهم العلم بالتخطيط للاغتيال الذي، بحسب الصحف والوسائل الإعلامية،كان قد أعلن عن وفاته في عام 2014.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
المشرق-العربي 10/9/2025 5:51:00 AM
حذّر أدرعي سكان قطاع غزة من العودة إلى المنطقة التي تقع شمال وادي غزة
اقتصاد وأعمال 10/8/2025 7:17:00 PM
ما هو الذهب الصافي الصلب الصيني، ولماذا هو منافس قوي للذهب التقليدي، وكيف سيغير مستقبل صناعة المجوهرات عالمياً، وأهم مزاياه، وبماذا ينصح الخبراء المشترين؟