السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

بين هنري زغيب ولبنان الوطن حكاية تُراث تُحكى

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
هنري زغيب.
هنري زغيب.
A+ A-
في بداية السنة 2018 تأسّست الرابطة الثقافية مار مارون - البوشرية وعلى رأسها الدكتور طوني الحاج (مدير سابق لكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الثاني - الفنار) وقد ضمّت عددًا من الدكاترة، والأساتذة، إضافة إلى فنّانين ومتخّصصين في مختلف المجالات... كانت انطلاقة الرابطة في شباط 1918 باحتفال تكريميّ للخورأسق الراحل جورج الجميّل، عُقد بعده في آذار 2018  لقاءٌ حول الانتخابات النيابيّة، مع الدكتورة غادة شريم (قبل أن تصبح وزيرة المهجّرين)، والدكتور الأمير الأيوبي، حضرَته شخصيّات اجتماعيّة وإعلاميّة بارزة. دأبَت بعدها الرابطة الثقافية مار مارون - البوشرية على إقامة اللقاءات الثقافيّة مع نخبةٍ من المفكّرين والقيّمين على الثقافة، منهم، على سبيل المثال لا الحصر: مدير عامّ الشؤون الثقافية د. علي الصمد، والشاعر موريس عوّاد الذي كان لقاؤه مع الرابطة آخر لقاءاته المباشَرة مع الجمهور، والمصوّرة، قبل رحيله إلى دنيا الحقّ. وقد حاوره يومها الدكتور ربيعة أبي فاضل.
 
تعدّدت الشخصيّات التي وقفت على مِنبر الرابطة، وتنوّعت المواضيع... وجاء زمن الحجْر إثر وباء كورونا، فاحتجبت الرابطة، حالها حال كلّ المنتديات والمؤسّسات العامّة والخاصّة، موقفةً اللقاءات والمناسبات الثقافيّة التي كان آخرُها في شهر آذار من السنة 2020  حيث أعلن حينها ما لا يقلّ عن خمسة من أعضائها (د. ربى سابا حبيب، أ. مارلين سعاده، أ. أدال الحوراني،  د. إيلي الياس،  د. مطانيوس ناعسي) عن توقيع كتبهم في معرض الكتاب أنطلياس في دورته التاسعة والثلاثين. وحين عادت الرابطة، بعد انحسار الوباء، إلى مزاولة اجتماعاتِها، فتحَت أبوابها لمنتدياتٍ أدبيّة كي تحتفلَ بأمسيات شعريّة؛ كما أقامت عددًا من اللقاءات المتعلّقة بإنجازات عددٍ من أعضائها... 
 
وبعد تفاقم الشوق للاحتفاء بكبار المفكّرين، عادت الرابطة الثقافية مار مارون - البوشرية إلى سابق عهدها، مشرِّعة الأبواب لتستقبلَ قامةً فكريّةً لها تاريخُها الثريّ الحافل بالعطاء، الشاعر هنري زغيب الذي قدّم يوم الجمعة 19 آذار 2023 على منبر الرابطة أمسيةً مطعَّمَةً بزَبَرْجَد التُراث الشعري اللبناني، وقد أمسى اسمه مرتبطًا بتراث لبنان، فحين تقول هنري زغيب يتلازم الاسم في فكرك مع أطياف كبارٍ سبقوه: جبران، سعيد عقل، الراحابنة، فيروز... لكأنّه صدى أصواتهم! يستحضرهم بعد أن يُدخلك عالمه الخاصّ لتقوم معه بجولة عبر تاريخه الثقافيّ الحافل بالعطاء، بين لبنان، وأميركا، والعراق حيث شارك في المربد... ترى من خلالها جميعًا لبنان الوطن، الغاية والمنتهى، خلاصة رسالته الفكريّة الأدبيّة والشعريّة.
 
هنري زغيب مثقَل  بحب الوطن، شأنه شأن جبران وسعيد عقل والرحابنة... لا يسعك وأنت تستمع إليه إلّا أن تستعيد الثقة بهذا اللبنان، تنظر إليه بمعزل عن لبنان الدولة ولبنان السياسيين؛ يرسّخ فيك القناعة بأنّهم، وإن كانوا منه، ليسوا هو، ليسوا لبنان الوطن، البقعة الأصغر والمنارة الأكثر إشعاعًا، وفق توصيفه؛ أسطورة سعيد عقل، وصومعة جبران، وسماء الرحابنة، وجنّة فيروز. يمسح الغبار والسواد المتراكمَيْن على مرآة الوطن، جرّاء ما ارتكبوه عبر التاريخ وما زالوا يرتكبونه في شعبه، لنرى من خلالها لبنان جبران الذي صرخ موضحًا: "لكم لبنانكم ولي لبناني"؛ لبنان سعيد عقل، الأسطورة التي أهدت العالم الحرف وفرشت جناحيها فوق بقاع الأرض حيث رمت بذورها وأنبتت عروشها؛ لبنان القِيَم والفخر والعزّة والجمال الذي نسج عباءته الرحابنة وطعّمتها فيروز بلآلئ  صوتها.
يتعاظم لديك هذا الحسّ الوطني وأنت تصغي إلى هنري زغيب وهو ينقل لك صورًا ومحطّاتٍ له في بلدان عبَرَها وهو مثقَل بلبنان، فلم يجد فيها ما يوازيه بالثقل وقيمة؛ وكان حيثما حلّ، البوق المعلن أنّ لبنان الوطن ما زال قائمًا، وأنّ العروس بيروت لم تمت ولئن أُحرق طرف ردائها مرّة بعد مرّة، وأنّ ثوب الاستعطاء الذي
ألقاه بعض السياسيّين على جسد لبنان الغضّ، وإن شوّه صورته، لا يغيّر ملامحه أو ينتقص من أصالته.
 
كانت أمسيةً رفعَنا خلالها هنري زغيب إلى سماء الفكر والشعر، وتألّقت فيها نجومُ كبارٍ سبقونا، عاشوا تحت وطأة السياسات الغاشمة ولم ينكروا لبنان الوطن، ولم تحجب تلك الغيوم السوداء شعاعهم المكرّس لهذا الوطن، ولن تطال مكانتهم أو تطفئ نورَهم الأزمات أو الملمّات مهما تعاظمت، فهم أرفع وأعلى من أن يفتك بهم عبَثُ العابثين أو حقد الحاقدين. هذا هو لبنان الذي استحضره هنري زغيب في أمسية الرابطة الثقافية مار مارون-البوشريّة، وربّما استحضره قبل ذلك في أمسيات أخرى، وسيظلّ يستحضره ما دام فيه عِرْق ينبض، فهو يحمل همّ لبنان في قلبه أينما ارتحل، ويرفع رايته أينما حلّ، مؤكّدًا أنّه لن يكفّ عن نشر رسالة التوعية على ضرورة الفصل بين لبنان الوطن ولبنان الدولة والسياسات، لأنّه مؤمن بلبنان الوطن، ويربأ به أن تشوَّه صورته في أذهان الأجيال الصاعدة، كما سعوا لتشويهها في أذهان أبنائه الرازحين تحت ثقل الوضع الاقتصادي المزري.
 
طعّم هنري زغيب أمسيتنا معه بتلاوة قصائد للرحابنة سبق وغنّتها فيروز فطغى الحنين الذي يولّده فينا صوتها على روعة الكلمات؛ استعاد الكلمات بصوته وعشقه وإيمانه العميق بجمالاتها، فسكِرنا معه بمعانيها، واستزدناه منها. جاءت عزْفًا على أوتار قلوبنا المشتاقة للفرح والجمال. وأشار إلى النقلة النوعيّة التي أحدثها سعيد عقل في شعر الرحابنة حين أرشدهم إلى تقنيّة صياغة الفكرة الشعريّة، باستخدام المجرّد مع المحسوس، ودمج المادّي بالروحاني، مشبّعًا هذه الفكرة بأمثلة عديدة من أشعار الرحابنة، منها: "يا رايح ع كفرحالا..."، و"بكرا إنت وطالل..."، و"إتمرجح بقلبك..."، هذه القصائد التي غنّتها فيروز، أدعوكم للاستماع إليها من جديد، والتمعّن في كلماتها، وفي ظنّي أنّ كثيرين منكم قد حفظوها مثلي عن ظهر قلب، من زمن بعيد.
 
لقد كان في مداخلات الحضور في نهاية اللقاء ما أكّد على ضرورة الفصل بين لبنان الوطن ولبنان الدولة والسياسة؛ لبنان الوطن الساكن في وجدان كلّ مغترب غادر قسرًا، لبنان الوطن الحاضن لتاريخ حافل بأسماء رجالات فكر نشروا نورهم أبعد من حدود الوطن الضيِّقة، وباتوا نجومًا تشعّ في سمائه ويتردّد شعاعها في كلّ الأرض، كلّما  دارت دورتها؛ لبنان الضمانة لأولادنا بانتمائهم إلى أرض وسماء وهويّة... هذا هو لبنان الذي كادوا يُفقدوننا الإيمان به، حتّى أوشكنا أن نخجل من التغني بحكاية طائر الفينيق ونشْر قدموس الحَرْف. 
 
نحتاج اليوم بشدّة إلى أمثال هنري زغيب ليُعيدوا الوهج إلى شعلة لبنان الوطن، ويصونوها من كلّ العواصف الساعية لإطفائها، فلبنان الوطن ما زال قائمًا، وعلى كلّ وطنيّ من موقعه حيث هو أن يصون اسم لبنان، ويدافع عنه، ويضيء على جمالاته بمعزل عن السياسات القائمة، رأفة بأولادنا وبمستقبلهم. فلنعلّمهم أن يحبّوه رغم كلّ الظروف، ويدافعوا عنه، ويشعّوا في أرضه، ليطغى نورهم على الظلمة، ويبقى لبنان مستمرًّا عبر التاريخ كما عرفناه، وكما نريده.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم