الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"ريّحني يا رب"... حكاية أمل بطلتها جيسّي فخري: "السرطان ما بيخوّف"

المصدر: "النهار"
ايسامار لطيف
ايسامار لطيف
جيسي فخري.
جيسي فخري.
A+ A-
لكلّ شخص منّا قدره الذي كُتب قبل أن يولد، وليس كلّ ما كُتب يُرضي الجميع، فبعض الحكايات تؤلم القلب وتُفطر الفؤاد... لطالما نقول "المهمّ الصحّة"، و"ما في أغلى من الولد"، فكيف إذا أتت ضربة الحياة على شكل مرض يُهدّد صحّة الولد وحياته؟ وما ذنب الأطفال أن يختبروا آلاماً كالسرطان؟
 
حكاية جيسّي فخري لا تُشبه الروايات المعتادة لهذا المرض اللعين، بل هي أشبه بقصّة بطلة هزمت المرض بإيمانها وإرادتها، فتمسّكت بالحياة التي عوّضتها بخبر الشفاء بعد رحلة طويلة من المعاناة.
 
عند زيارة المستشفى نكتشف مدى سخرية القدر وسخافة الحياة، فأمام الألم وخوف انتظار النتيجة، يمرّ شريط العمر بلحظة وكأنّ الإنسان يعرف قيمة حياته عندما يوشك على خسارتها.
 
معاناة المرض وإرادة الحياة
"قلتلو يا رب ريّحني من هالوجع وخدني لعندك"، بهذه الكلمات تروي جيسّي لـ"النهار" عن درب الجلجلة الذي سلكته وهي في عمر الزهور، قبل أن يُذبل المرض جسدها النحيل بسبب مضاعفاته.
 
تقول البطلة الصغيرة: "الحياة رسالة، هذا ما آمنت به منذ صغري، أو بالمعنى الأصحّ منذ عام 2013، عندما توفّي والدي وأصبح ملاكاً في السماء، ممّا دفعنا إلى الانتقال إلى بيروت، بعدما تركت منزلي وقريتي التي نشأت فيها، لكي أنتقل إلى المدينة، حيث الحياة الجديدة والأشخاص الجديدون، الذين لم أستطع رؤيتهم كثيراً، إذ بدأت بعد أقلّ من سنة من انتقالنا وتحديداً في أيّار، بالشعور بوجع غريب في بطني، كان يؤلمني جدّاً، فأجريت الفحوصات اللازمة وتبيّن أنّني مصابة بتضخّم في الكبد والطحال، فعندها لم يخطر لي أبداً انّني مصابة بالسرطان".
 
وتُضيف جيسّي: "أدخلوني إلى المستشفى، ولم أكن أعرف أنّها مركز سرطان الأطفال، وفي كلّ مرّة كنت أرى أشقّائي وأمي، كانوا "يفرطون" بالبكاء وكأنّهم يودعونني، إلّا أنّه ذات يوم استعدت قواي، قمت لأمشي قليلاً في الأروقة، وهنا كانت الصدمة الحقيقيّة، يوم عرفت أنّني في مركز سرطان الأطفال!".
 
غريبة هذه الحياة، في كلّ مرّة نعتقد أنّنا فهمناها تؤكّد لنا العكس، فما بين الخوف من الموت والخوف من خوض غمار الحياة خيط رفيع، لا يعرف قيمته إلّا من تألّم، وهنا لا أعني ألم الحبّ أو الفراق، فكلّ آلام الدنيا تهون أمام ألم الجسد المتزامن مع اضطراب نفسيّ، حيث تارة تشعر وكأنّك ستعود إلى الحياة أقوى ممّا كنت، وطوراً تستسلم لليأس وتنتظر ساعتك... هذا ما شعرت به جيسّي، ولكم التخيّل!
 
 
"لا أخشى شبح الموت"
أسوأ شعور يمكن أن يساور المرء هو الخوف، وهذا ما تجنّبته جيسّي، حيث حاربت على جبهتين. الجبهة الأولى تمثّلت بالمرض، أمّا الثانية فكانت نفسها، والأخيرة لم تكن سهلة، فما أرهبها ساعة التخلّي والشكّ التي تسكن النفس في لحظات الضعف.
 
تُشير جيسّي في حديثها، وفي صوتها قوّة، إلى أنّه "في 20 أيّار 2017، تغيّر كلّ شيء في حياتي، وأصبح هدفي العودة إلى الحياة فقط، وتراودني أفكار غريبة بينما كنت أجلس على الشرفة أراقب المارّة والأطفال الذين يركضون ولا يضعون الأوكسيجين، بينما أنا عاجزة عن التحرّك ولا أستطع الانتقال إلى فراشي دون مساعدة، وبدون ماكينة التنفّس التي لازمتني لفترة طويلة، عندها فقط عرفت كم أنّ الحياة نعمة، والأهمّ هو أن تكون بصحّة جيّدة، فلا المال ولا "الوجهنة" تدوم، وتبقى صحّتك هي الأساس".
 
"تخلّيت عن شعري بإرادتي"
تقول جيسّي إنّها "عندما شعرت بأنّ العلاج سيأخذ منّي شعري، قصصته كي لا أحزن فيما بعد، فلم أكن لأسمح بالسرطان أن يأخذ منّي كلّ شيء، لم أعطه هذا الفخر ما دمت قادرة على المواجهة"، وتُردف: "كنت أصلّي للربّ وأطلب منه الرحمة والراحة، فالوجع كان يفوق التحمّل، وما في يدي حيلة، فقلت له: "يا ربّ إذا كنت ستأخذني فلتفعل الآن، وإن لا فأعدك بأن أخبر الجميع عن هذه المعجزة، وأنشر حبّ الحياة بين المرضى المتعبين، وأخبرهم بأنّ السرطان لا يعني الموت بل هذه مجرّد هواجس لدينا".
 
تستذكر "البطلة الصغيرة" لحظات الألم والأمل في المركز، حيث تعرّفت على صديقتها المقرّبة "مينيرفا"، التي حاربت حتّى الرمق الأخير على الرغم من معرفتها أنّ السرطان انتشر في جسدها، فقتلته وعاشت في السماء في 10 نيسان 2021، فقالت: "تواعدنا ألّا نموت قبل تحقيق أحلامنا، وربما لأنّ أحلامنا كثيرة، كان لا بدّ من أن يغادر أحدنا ليكون ملاكاً للآخر فيحميه ويساعده".
 
 
لحظات صعبة وأحلام لن تكتمل
المرض ليس سهلاً، والجسد لا يحتمل الكثير، فإذا جُرح إصبعك تتجنّب تحريكه ليوم أو أكثر، فكيف إذا كنت تتلقّى العلاج الكيميائيّ؟
 
تقول جيسّي بحرقة: "كنت أحلم بأن أكون راقصة، إلّا أنّ العلاج والمرض لم يسمحا لي بتحقيق هذا الحلم، فأنا مصابة بترقّق العظام الناتج عن العلاج"، وتُضيف ممازحةً "القسم الشماليّ من جسدي عمره 17 عاماً، بينما اليمين 70 عاماً! ولكنني أحاول ترميم نفسي وهذا يتطلّب وقتاً".
 
 
أسرار تُكشف للمرّة الأولى... هذا ما فعلته عندما شفيت!
أحياناً، لا يكشف الإنسان أوراقه دفعة واحدة، فثمّة أمور يحتفظ بها في جوفه، لا يُخبر أحداً عنها، حتّى أنّه يرفض الاعتراف بها لنفسه، لأنّها تؤلمه ولكن مع الأيّام نتأقلم مع الوضع فيُصبح عاديّاً...
 
حياة جيسّي قبل المرض تختلف عن اليوم، إلّا أنّ الأمل هو الشيء الوحيد الذي كبر معها ولم يتغيّر، وهذا بفضل "ملاكها الحارس"، حسبما اعتبرته.
 
تستذكر جيسّي لحظاتها المريرة في المستشفى حيث كانت على مشارف اليأس، وفجأة تسمع صوت والدها يُناديها وكأنّه يحاول إمدادها بجرعة حبّ وقوّة حتّى ولو كان بعيداً، وتقول: "كنت أقول له يا بابا اشتقتلك، بس مش مستعدّة كون حدّك... ساعدني".
 
في 20\01\2020، كانت آخر جلسة علاج لجيسّي، وكان لا بدّ لها من إجراء عمليّة سريعة، ولكنّ مناعتها كانت ضعيفة جدّاً، إلّا أنّه قبل موعد الدخول المحدّد، تفاجأ الأطباء بالمناعة التي كانت لدى "المحاربة الصغيرة"، فأُدخلت إلى العمليّة التي تمّت بنجاح وسط دموع الفرح والسعادة، فجمعت جيسّي العائلة حولها للمرّة الأولى، ليحتفلوا معًا بهذه المعجزة الإلهية التي كتبت حياة جديدة لابنة الـ16 عاماً.
 
حكايات جيسّي لا تُشبه أيّ حكاية، فنهايتها سعيدة، على عكس غالبيّة قصص السرطان الموجعة التي نعيشها في مجتمعنا اليوم، ويبقى السؤال الأبرز، هل نستسلم لليأس؟ أم نتمسّك بالحياة رغماً عن المرض كما فعلت هي؟
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم