الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

هل سمعتم بالمنسيّين في مستشفى دير الصليب؟

المصدر: "النهار"
رضوان عقيل
رضوان عقيل
معية الهلال الاحمر الكويتي في دير الصليب
معية الهلال الاحمر الكويتي في دير الصليب
A+ A-
في بلد سقطت فيه أبسط قواعد المسؤولية والرحمة وحقوق الإنسان وانعدمت روح الإنسانية، يبقى هناك أناس يعملون لوجه الله حيث لا خطوط حمر في أجندات يومياتهم ولا تقوقع أو أي تطبيق للمذهبية والمناطقية في ممارساتهم. ولا يعملون تحت عناوين خدمة طوائف أو مذاهب وأحزاب بل يستيقظون ويجتهدون وينامون ويرفعون شعار خدمة الإنسان إلى أي دين انتمى.
ينطبق هذا التوصيف على الراهبات العاملات في مستشفى دير الصليب للأمراض العقيلة والنفسية حيث يعملن على مدار اليوم بفرح واجتهاد من دون تأفف جراء ما يشاهدن على مدار الساعة من وقائع ومحطات لا قدرة لأي شخص على تحملها. تعيش هذه المجموعة من الراهبات مع المئات من الاطفال والكبار المنسيين والمنسيات في مستشفى الصليب حيث يدخلون إلى هذا المكان الذي يشع بالنور والمحبة رغم ما يحصل في غرف هذه الجمعية في جل الديب. يدخل زائر هذا المكان وهو متهيب لما ينتظره من مشاهد لا يقوى على تحملها برفقة مجموعة من المتطوعين في جمعية الهلال الاحمر الكويتي برئاسة رئيس بعثتها في لبنان الدكتور مساعد العنزي ومدير الاتحاد الدولي للصليب الاحمر والهلال الاحمر في لبنان السيد حسام الشرقاوي إلى عاملين في الصليب الاحمر اللبناني والدولي.
تستقبلك على المدخل مجموعة من الراهبات لا تغيب الابتسامات عن وجوههن وهن في صلاة دائمة في أعمالهن وأينما حللن. نعرّج إلى جناح يجمع العشرات من الصبية والشباب الذي يعيشون في غرف مرتبة ونظيفة بفعل جهود هذه المجموعة من العاملات اللواتي نذرن أنفسهن في سبيل تقديم الخدمات لهذه الفئة التي تعاني أمراضاً عقلية ونفسية. 
 
لحظة الدخول ترتفع صرخات عدد من النزلاء ويضرب أحدهم رأسه بالجدران ويسقط آخر على الارض وهو يطلق صرخات. تتولى الراهبة المشرفة عليه تهدئته والتخفيف من روعه. الجميع هنا لم يعد قادراً على الصمود أمام هذه المشهد، وقلة منا لم تذرف الدموع لأنها لم تستطع استكمال النظر إلى هذا المشهد. في هذا الجناح مجموعة من الشبان لا تحضر عائلاتهم ولو للاطمئنان عليهم ومعرفة إذا ما زالوا على قيد الحياة. شاب من ذوي الحاجات الخاصة يرقد على كرسي متنقل مضى على وجوده في هذا المكان أكثر من أربعين عاماً، جلبته أسرته إلى الجمعية وهو في الثالثة ولم تعد لتسأل عنه طوال كل هذه الأعوام. لا يتكلم وغير قادر على القيام بأي فعل حركي. تطعمه إحدى الراهبات وتتولى استحمامه وتقديم كل الخدمات التي يحتاج إليها. تتحدث هذه الأخت بفرح ومن دون أن تبدي أي اعتراض. وعندما يتعب هذا الشاب على كرسيه تحمله وتضعه على سريره لينام. ومن أين تأتي المتطوعات بكل هذه الطاقة؟
نودّع هذه المجموعة من المرضى على وقع هتافاتهم وجملهم غير الواضحة لكنها تحكي قصة هذه المجموعة من المنسيين من عائلاتهم أولاً، ومن الدولة والمؤسسسات الرسمية، مع الإشارة إلى أن وزارة الصحة تقوم بتقديم جزء من الواجبات المطلوبة منها، والمبلغ المالي الذي تقدِّم عن كل يوم لا يسد إلا جزءاً صغيراً من الأرقام التي تنفَق على هؤلاء حيث أصبح العمل معهم أصعب بعد فيروس كورونا. وثمة فريق تمريضي وطبي إلى أطباء يقومون بمتابعة هؤلاء وسط ظروف مادية صعبة تمر بها مستشفى الصليب.
من جناح االشباب ننتقل إلى القسم الذي تعيش فيه أعداد كبيرة من المرضى الذين يعانون أمراضاً عقلية ونفسية وأكثرهم فوق سن الخمسين. اصطفوا على مقاعدهم، ولحظة دخول الوفد الزائر برفقة الراهبات اللواتي يحرصن ويشددن على عدم التصوير، يقف النزلاء وهم يصفقون بانتظام ومن دون حدوث أي فوضى. 
وتوجد من بين هؤلاء مجموعة من المجازين والجامعيين وهم من كل الفئات. وتتولى مجموعة من الممرضين تنظيم يومياتهم من لحظة الاستيقاظ إلى تناول الفطور والخروج إلى حديقة مجاورة طلباً للراحة والحصول على أشعة الشمس. وتولت مجموعة منهم الحديث بعدما وقفوا في صف واحد. شكروا الصليب الاحمر والهلال الكويتي وجهات أخرى تمد مستشفى الصليب بالمساعدات والاغاثة، وعمدوا إلى متابعة ما ينتظرهم في كل يوم. أكثرهم من المسالمين، لكن البعض منهم تسيطر عليه نوبات عصبية تفقده التركيز وضبط نفسه ويعمد المشرفون هنا على تهدئته.
في هذا الجناح شبان من كل الطوائف والمناطق من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين. وثمة كبار في السن لا يتكبد أولادهم عناء زيارتهم. وعندما يتوفى أحدهم يتم الاتصال بأسرته. في إحدى المرات ردّت عائلة بأنها لا تعرف اسم ابنها المتوفى "فلان مات من زمان"! كل نزيل في هذا المكان له قصته. وثمة مجموعة من العائلات تحضر إلى المستشفى وتصحب مريضها إلى المنزل لأيام وعندما تسوء حالته الصحية تعمد إلى إرجاعه لعدم قدرتها على ضبط ردود أفعاله.
في جناح النساء المشهد نفسه: عشرات من الفتيات والطاعنات في السن يرحبن بالوفد على طريقتهن بالزغاريد احتفاء بالضيوف. ثمة سيدة في العقد الثامن تتكلم بحروف غير مفهومة. وتطلق أخرى ترنيمة صلاة مصحوبة بدعاء ليحمي الله كل من يقدم لهن يد العون، ومن بين النسوة ضائعات تم جلبهن إلى المستشفى بواسطة قوى الامن الداخلي ومن دون أوراق ثبوتية. ثمة شابة سورية لاجئة في منتصف العشرينات لا تتذكر سوى أن أسرتها تقيم في مخيم في برالياس في البقاع. وتتولى سيدة من الشوف شكر الراهبات وأعضاء الوفد. وتطلب فتاة من طرابلس رؤية أهلها لكنها تمنحهم أسباباً تخفيفية بسبب الكورونا.
في أحد الاجنحة قسمٌ لأعمال التطريز والخياطة وأعمال حرفية. وتقوم مجموعة من النزيلات بإنتاج مجموعة من الاشغال الفنية. ويرسمن الأرزة على الاقمشة بواسطة مجموعة من المدربين والمتطوعين. إن كل ما تطلبه الراهبات المشرفات على هذه المجموعات من أصحاب الضمائر هو مد يد العون من أغذية وأدوية ومستلزمات طبية ومواد استهلاكية ومحروقات. وفي جعبة الرئيسة العامة الأخت ماري مخلوف ورفيقاتها الكثير من القصص والمعاناة وهي تردد "شكراً للكويت وكل من يساعدنا". ولم تسمع من أعضاء الوفد من الصليب الاحمر الدولي والهلال الاحمر الكويتي إلا كل ما يثلج الصدور. ولم يشأ الدكتور مساعد العنزي الاستفاضة في التطرق إلى المساعدات المقدمة من جمعيته مع وعود بزيادتها والاستمرار في الوقوف إلى جانب مستشفى الصليب. ولم يستطع المتطوعون معه حبس دموعهم. لا ينال المنسيون من هؤلاء المرضى دقائق من اهتمامات المسؤولين عندنا، ولم يتم وضع ملفهم في بند واحد في جدول أعمال مجالس الوزراء على مدار الحكومات المتعاقبة اللّهمّ إلا تلقّيهم حفنة من مساعدات وزارة الصحة، لأن الاولوية في اهتمامات أكثر الوزراء تنصب على مشاريع الصفقات والفساد والسفر. 
في مستشفى الصليب لا مكان لمزاريب الهدر وسرقة لقمة الفقير بل ينابيع محبة أرسى أحجارَ قواعدها الأب الطوباوي يعقوب الكبوشي عام 1930 حيث تحولت جمعيته ملاجئ للأيتام وذوي الحاجات الخاصة والمهمشين والمتروكين من عائلاتهم من الأشد فقراً إلى الأكثر إعاقة. 
ويبقى من حسن حظ النزلاء في مستشفى الصليب أنهم لم يسمعوا بأخبار الأصحاء في البلد. من حسن حظهم أيضاً أنهم يعيشون تحت مظلة لا تعرف أي تمييز نعيشه في الخارج وهم يتلقون العون من أهل الخير. ومن نعم الله عليهم أنهم لم يسمعوا بطبقة سياسية فاشلة ومصارف نهبت ودائع المواطنين في بلد لم تعد تنطبق عليه عبارة "الجمهورية اللبنانية" بل "جمهورية الخطوط الحمر"!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم