بين طرابلس وقبرص: قصص عبّارات الموت والمخيمات والترحيل... متى يُحاسَب سماسرة التهريب؟
11-09-2020 | 18:00
المصدر: "النهار"
كتبت جودي الأسمر
إنه موسم الهروب من الفقر: موجة هجرة غير شرعية تعود إلى ميناء طرابلس. فظروف الطقس في أيلول بدت مؤاتية لـ"صيد" فرصة قد تكون الأخيرة ليرحلوا بالعشرات إلى مكان يعيشون فيه بكرامة، حسبهم أن تنجيهم رحلتهم المضنية وغير المأمونة من الفقر. وإن كانت النجاة بحد ذاتها حاملة لمخاطر الموت، ليس لديهم غالٍ ولا رخيص يخسرونه، بعدما ركبوا البحر مع أولادهم ورهنوا حياتهم للمجهول.
عودة قسرية
لكنها خطوة عاثرة. فقد عاد يوم الثلاثاء 81 مواطنًا كانوا هاجروا بطريقة غير شرعية من ميناء طرابلس بحرًا إلى قبرص اليونانية، وحُجروا على الفور في فندق المعرض، لتحبط في المساء نفسه القوات البحرية في الجيش بالتنسيق مع المخابرات، عملية تهريب أخرى على متن مركب أعيد إلى الشاطئ. وبعد ظهر السبت الماضي، كانت السلطات القبرصية قد أعادت 33 مهاجرًا إلى طرابلس من بينهم 14 طفلاً و6 نساء وثلاثة أشخاص من التابعية السورية، بتنسيق بين السلطات اللبنانية والقبرصية التي سارعت بتنسيق زيارة رسمية إلى لبنان "للتعامل مع هذه الظاهرة بأفضل طريقة ممكنة وأكثرها فاعلية".
وأعلنت السلطات القبرصية وصول أكثر من 150 مهاجرًا غير شرعي على متن خمسة قوارب من لبنان، خلال عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة. وأضافت وفق بيانها أنه تمت إعادة أكثر من نصفهم إلى لبنان، في حين تم استقبال الباقين والنظر بأوضاعهم وما إذا سيجري ترحيلهم أيضًا.
من الناحية القانونية، تربط لبنان وقبرص اتفاقية تنصّ على "إعادة إرسال" المهاجرين غير الشرعيين القادمين من لبنان. في المقابل، يعتبر مبدأ "عدم الإعادة القسرية" قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي، وبالتالي فهو ملزم لكافة الدول سواء كانت طرفًا في اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين أو لم تكن. لكنها حماية تطبق حيث تكون "حرية اللاجئ أو حياته مهددة بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة إجتماعية معينة أو رأيه السياسي"، ما لا ينطبق على هؤلاء اللاجئين وأسرهم الذين تواصلوا أمس مع "النهار" من محجر المعرض بانتظار نتائج فحوصات الـ PCR، متوجهين بعدة رسائل إلى الدولة اللبنانية.
إلى أين؟
وفيما ورد عن السلطات القبرصية أنها قامت بترحيل لاجئين لأنهم كانوا على قارب "بحالة سيئة وغير آمنة"، يخبرنا فوج منهم أنه جرى إعادتهم إلى لبنان "بعد قضاء خمسة أيام في مخيم اللجوء، وآخرون جرى ضبطهم في الشارع".
وخلال مواكبتنا للعائدين عبر فيديوهت من المحجر، يطلق مواطن صرخته "نحن لا نريد البقاء في لبنان. أنا أب لسبعة أطفال، قمت ببيع مفروشات المنزل لأسافر مع زوجتي وأولادي. لم يبق لي شيء في هذا البلد. لقد أعادتنا السلطات اللبنانية، فلتجد لنا حلًا".
ومهاجر آخر يضيف "نحن نخاطر بأرواحنا وبأولادنا. تعرضنا للموت خمس مرات كي لا نعيش هنا، ثم أعادونا. نحن بعهدة كلّ مسؤول اهتمّ بإعادتنا إلى لبنان. نناشد الأمم المتحدة بتأمين حلّ لأولادنا على الأقل".
ويروي المواطن اللبناني شمس الدين خالد الكردلي رحلته مع أولاده جهاد ومارو وإياد "أبحرنا 25 ساعة في البحر، وتجاوزنا عدة مخاطر حتى وصلنا إلى المياه الاقليمية القبرصية فيما كان يتعقبنا على مدار الساعة والربع زورق قبرصي، إلى أن أطلق الرصاص على زورقنا وقام بتحطيمه وعلى متنه 15 طفلاً. وضعونا في خيم مهترئة ولم يساعدونا سوى بقنينة مياه صباحا وأخرى مساء. وبعد خمسة أيام أخبروننا أننا سنخضع إلى فحوصات PCR، لكنهم خدعونا وقاموا باقتيادنا إلى اليخت لترحيلنا إلى لبنان".
ويسأل "السلطات التي أعادتنا إلى لبنان، هل ستهتم بمستقبل أولادي؟"، شارحًا أنهم من عائلة يونانية الجذور، جرى ترحيلها إلى لبنان إبان المجازر العثمانية بحق الأرمن.
ويرسل لنا عزوز الطرابيشي صورًا من مخيم لارنكا حيث أقاموا خمسة أيام، وتظهر خيمًا من القماش ومراحيض بدون مياه وأوضاع نظافة مزرية "لم نستطع الاغتسال. كانت المياه متوفرة ساعة واحدة في النهار. أحد المسافرين يقيم أقرباؤه في قبرص، فأمدونا بقناني المياه لنغتسل. كانت أكوام النفايات تحيطنا من كل جانب، وطالبنا ملياً بإزالة هذه الأكوام التي أطبقت على أنفاسنا فأزالوا بعضًا منها".
في المقابل، شكر الكردلي الأمن العام اللبناني "استقبلونا بالمياه والترويقة ولاحظوا وضعنا المزري فسمحوا لنا باستخدام حماماتهم. لكن أي حياة سنعيشها الآن؟".
سماسرة التهريب
هذه الظاهرة التي شهدتها أولاً شواطئ طرابلس عام 2015 وكان خلالها مواطنون يزوّرون هوياتهم مدعين أنهم لاجئون سوريون، الرابح الوحيد والأكيد منها هم سماسرة القوارب. وتشير معلومات ميدانية لـ"النهار" أنّ "هؤلاء المهرّبين ينقسمون إلى خمس مجموعات، وكل واحدة منها تتألف من 5 إلى 10 أشخاص، وهم يعرفون بعضهم بعضاً، وكلّ مجموعة استلمت نقطة معينة عند البحر، أكثرها في جزر الميناء، والحريشة، والعبدة شمال طرابلس، وصوب البالما جنوبًا".
وحول آلية التهريب "تقوم هذه القوارب بإيصالهم إلى جزر البلان والرميلة والسنني والرامكين والنخل، بحجّة أنهم يريدون السباحة، ويحملون الضروري من مقتنياتهم بشكل لا يثير الريبة. وعند غروب الشمس، يأتي مركب آخر ليبحر بهم نحو قبرص".
وعادة ما "تستأجر هذه المراكب مجموعات يثق أعضاؤها ببعضهم بعضا فيحافظون على سرية رحلتهم، ويتراوح العدد من 15 إلى 33 مسافرًا وقد يصل العدد إلى 40، كما هو حال المركب الأخير".
اللافت أيضًا أن السلطات التي تهتم بتيسير ترحيل اللاجئين غير الشرعيين، تتغاضى عن مقاضاة المهربين الذي ينظمون هذه الرحلات بطريقة شبه علنيّة، لقاء "مليون ونصف إلى 3 ملايين ليرة" على المهاجر الواحد، مراكمين ثروات على فتات الفقراء واليائسين بدون أن تطالهم يد تردع أو قانون يحاسب.