الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

عن أمهات ظُلمنَ في المحاكم الدينية... القانون المدني للأحوال الشخصية في لبنان "ضرورة وليس خياراً"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-

يجدّد اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في 25 تشرين الثاني، وانطلاق حملة الـ16 يوماً ضدّ العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، المساعي النضاليّة للمطالبة بحقوقٍ لا تزال تفتقدها، بنسب متفاوتة، كلّ نساء وفتيات العالم.

في لبنان، يرتفع صوت مطلبيّ جريء لإقرار قانون مدنيّ موحّد إلزامي للأحوال الشخصيّة. ولا غرابة في أن تضع السّلطتان السياسية والدينية أمامه الخطوط الحمراء، وأن تكرّس ضدّه محاذير اجتماعيّة ودينيّة غير واقعيّة.

تتدحرج آلام ومظالم منذ سنوات طويلة في قضايا الأمهات في لبنان. الظلم جوهريّ، وقديم، ومديد، وليس مسألة "إشكال فردي". فإمساك المحاكم الطائفية على اختلافها بمسائل الأحكام الشخصيّة كرّس نفوذ القوانين الطائفية المنحازة وتأثيرها، والتي تلغي مبدأ التعاطي مع اللبنانيين على أنهم مواطنون يحكم في ما بينهم بالعدل والإنصاف.

وعوضاً عن أن يسري في لبنان قانون مدنيّ موحّد، يُنظّم شؤون الأحوال الشخصيّة، هناك 15 قانونًا منفصلًا لمختلف الطوائف الدينية المعترف بها في البلاد، وتديرها محاكم دينيّة منفصلة. عادةً ما تمنح معظم المحاكم الدينية حقّ حضانة الأطفال للآباء في سنّ مبكرة جدًا، ولو تضافرت عوامل موضوعيّة تثبت عدم أهليّة الأب للحضانة.

بالنتيجة، لا يزال آلاف الأطفال والأمّهات اللبنانيّين محرومين من حقّهم في الحضانة والأمومة، في ظلّ قوانين أحوال شخصيّة تطيح بهذا الحقّ في نصوصها، وأثناء تطبيقها في محاكم يديرها نظام أبويّ، لا يزال يرفض الاعتراف بالمرأة إنسانًا كامل الحقوق والواجبات، ومستقلّاً في جوانب حياته كافّة، ويساوي بين السيّدات اللبنانيات.

اليوم هو مناسبة لتناول اقتراح "القانون المدنيّ الموحّد للأحوال الشخصيّة"، الذي أعدّته منظّمة "كفى" من 157 مادّة، لا تفصّل فيه شؤون الزواج والطلاق، إنّما جميع الأحوال الشخصية للمواطن والمقيم في لبنان، منذ الولادة وحتى الوفاة. وإزاء الواقع الظالم، نسرد قصصاً إنسانيّة بلسان أمّهات مطلّقات تحت سقف 3 محاكم دينيّة.


مطيعة: "تنكّرت لأشاهد ابني"

طوال 10 سنوات، عانت الأم "مطيعة" لمشاهدة ابنها طه البالغ من العمر 8 سنوات عند حدوث الطلاق. حكمت لها المحكمة الشرعية السنيّة بمشاهدة ابنها 6 ساعات في المخفر ليوم واحد في الأسبوع، "بعد تدخّل نائب سابق ينتمي إلى تيار دينيّ نافذ". والأم ترفض رؤية طفلها في المخفر "لأنه ليس المكان الذي يليق بطفلي"، فراحت تشاهده خلسة قرب البيت والمدرسة.

لمّا حان موعد تخرّج الابن في المدرسة، صوت أموميّ هائل دوّى في قلبها "لن أفوّت مناسبة حضور تخرّج طه، ولو جئته زاحفة. أنا لا أرتدي الحجاب. لكنني في ذلك اليوم تخفّيت بثياب امرأة منقّبة، لبست عباءة سوداء، وغطّيت وجهي وكفّيَّ، لكنّني كنت أخاف أن يُكشف أمري، فتعمّدت تغيير مشيتي. عند انتهاء الحفل، اقتربت من ابني، وحملت له قرآنًا صغيرًا، وكيسًاً من الشوكولاتة هدية. كشفت عن وجهي لأقول له: "مبروك حبيبي"، فصُدم. لم أشأ إرباكه أكثر فعدت أدراجي".


مريم: "كان ينتقم بالأطفال فيطعمهم زجاجًا مكسورًا"

عاشت مريم* (17 عاماً) مع رجل يبرحها ضربًا، ولا يتوانى عن تعنيفها لفظياً أو جسدياً لمجرّد أن اختلفت معه بالرأي، ولا ينفق عليها ولا على أولاده. ولم تكن آفات الزوج تطال الأم وحدها فحسب، بل كانت تؤذي الأطفال، إذ "يخلط أحياناً طعامهم بفتات زجاج مكسور. إلا أنّني عندما استجمعت قواي، وقرّرت الانفصال عنه في العام 2018، منعني من رؤية أطفالي لسبعة أشهر، ووصفني أحد القضاة في المحكمة الجعفريّة بـ"المجنونة".

وعندما توفّي الزوج نتيجةً لمرض في القلب، خاضت مريم معركة قانونية أخرى لنيل الحضانة. "أرادت عائلته الحصول على حضانة أطفالي. فلجأت إلى المعونة القانونيّة من إحدى المنظّمات، التي ساعدتني من خلال محامٍ للاحتفاظ بحضانة أولادي".


إلسي: "ابني مريض، ولا يستحمّ، ويمنعونني رؤيته!"

حُرِمت إلسي* حضانة طفلها سليم* بقرار صادر عن المحكمة الروحية من دون إثباتات حقيقيّة. وتروي الأم أنّ "الطلاق حكمت به المحكمة لأن طليقي اتّهمني بالزنا، وبأنّ سليم ليس ابننا، فحُرمت ابني مذ كان عمره سنة. حينها، أجريتُ فحص الحمض النووي، واتّضح أنّ سليم هو بالفعل ابنه. طالبت استئناف الحكم لأستعيد حضانة ابني، إلا أنه أبرز فواتير مزوّرة لأدوية الأعصاب، مدّعيًا أنّني أتعاطاها، لأحرم ابني مجدّداً بسبب فقدان الأهلية العقلية، والأمر عارٍ تماما من الصحة".

منذ سنتين حتى يومنا هذا، لا يتاح لإلسي مشاهدة ابنها، الذي يعيش مع جدته وأبيه، سوى ست ساعات كلّ يوم سبت. تستقبل ابنها في أحد مخافر زحلة.

وفي إحدى المرّات، لاحظت انتشار حبوب حمراء في كلّ جسم الطفل، فتواصلت الأم مع الطبيبة، التي رجّحت إصابة الطفل بالفرفريّة (Purpura) التي تتسبّب نزيفًا في الأوعية الدموية الصغيرة، وتؤثر على الجلد والمفاصل والأمعاء والكليتين، وتؤدّي إلى فقر الدم والهزال. " أخسر ابني وأنا وحيدة في المعركة. وابني يخسر صحته النفسية والجسدية".

الزواج والطلاق في القانون المدني المقترح

إنّ ما تقدّم ترعاه مقاصل قانونية في محاكم دينيّة، تتحكّم بالأحوال الشخصية للمواطنات والمواطنين، فترتكب بحقّهم جرائم تمييزية صارخة.

أمّا القانون المدني الموحّد للأحوال الشخصية فيُطبّق على جميع اللبنانيين، وعلى غير اللبنانيين المقيمين في لبنان. والمحاكم المدنية هي الهيئات الصالحة لتطبيقه. ويمنع عقد الزواج إذا كان أحد العاقدين مرتبطاً بزواج سابق قائم. وسنّ عقد الزواج للجنسين هي 18 سنة مكتملة، واختلاف الدين بين العاقدين لا يشكّل مانعاً للزواج، كما يمكن تضمين العقد شروطًا خاصّة.

ويتضمّن القانون المدني الموحّد للأحوال الشخصية بنودًا تتعاطى جوانب حياة الأفراد والمواطنين كافة، إلا أننا نضيء على بعضٍ من الأحكام المرتبطة بالحالات المذكورة، كالآتي:

في الموجبات الناتجة عن الزواج

- يكتسب أيّ الطرفين الجنسية اللبنانية في حال ارتباطه بلبنانيّ أو لبنانيّة.
- يلتزم الزوجين الإنفاق على الأولاد وعلى المنزل وعلى بعضهما بعضًا وعلى من يقيم معهما في المنزل كلّ حسب قدرته.
- يشترك الفريقان في الأموال المكتسبة خلال الزواج، إلا إذا كانا قرّرا خلافًا لذلك في عقد الزواج.
- يعتبر المنزل الزوجيّ مشتركًا، ولا تجوز قسمته أو التصرّف به إلا بعد انتهاء الأولاد من دراستهم ووصولهم إلى مرحلة الكسب.

في الطلاق

- لا يقع الطلاق إلا نتيجة حكم صادر عن المحكمة المدنية المختصّة.
- يحق للزوجين التقدّم بدعوى طلاق بعريضة مشتركة وبموجب اتفاق طلاق منظّم لدى الكاتب العدل، تتضمن وبالتفصيل كيفيّة تنظيم إقامة الأولاد والإنفاق عليهم وإدارة شؤونهم في حال وجودهم.
- يحق للطرفين أو لأحدهما التقدّم بدعوى طلاق إذا تبين أن الاستمرار في الحياة المشتركة غير ممكن.
- يمكن أن يطالب أحد الطرفين بالطلاق للأسباب الآتية: الخيانة الزوجية، العنف الأسريّ، الحكم بالسجن لمدّة تزيد عن ثلاث سنوات في جرم شائن، والترك الفعليّ لمدّة تزيد عن ثلاث سنوات. وفي حال حصول الطلاق لواحد من هذه الأسباب، يحقّ للمتضرّر المطالبة بالتعويض.

ما هي الأسباب السياسية القائمة التي تحول دون إقرار قانون مدنيّ موحّد للأحوال الشخصيّة؟

برأي العضو المؤسّس لمنظمة "كفى"، المحامية ليلى عواضة، أنّ "الأسباب تتركّز في طبيعة النظام السياسيّ الطائفيّ الزبائنيّ القائم على المحاصصة بين الطوائف، وعلاقة المصلحة التي تربط السياسيين بالطوائف؛ فهؤلاء موجودون بفضل قانون طائفيّ، والطوائف تشكّل غطاءً يحمي السياسيين من أيّ عقاب. والطوائف تتمتّع بسلطة واستفادات مادية من خلال استئثارها بقوانين الأحوال الشخصية في المحاكم الطائفية. إذاً، إنها مصالح متبادلة بين الطوائف والسياسيين التي تصعب إقرار هذا القانون، لأنّ هذا الأخير سيفكّ الروابط بين السياسة والطوائف. لذلك نضع الأمل في القوى التغييرية التي تستعيد دور الدولة وتكرّس دولة المؤسّسات وفصل الدين عن الدولة.

لكن ثمة اعتقاداً سائداً بأن القانون المدنيّ للأحوال الشخصية يتعارض مع الالتزام الديني. ما صحّته؟

من الضرورة التأكيد أنّ "القانون الموحّد للأحوال الشخصية يحافظ على العقيدة، وبالتالي لا يمنع الاحتفاليّة الدينية بعقد الزواج، أكان إكليلًا أو عقد قران. لكن هذا القانون يتعاطى مع مفاعيل الزواج ليوحّدها بين جميع المواطنين لناحية الحضانة، والنفقة، والطلاق، وموجبات الأزواج تجاه بعضهم بعضًا. هو ينظّم علاقات الأفراد خلال العلاقة الزوجية وبعد الانفصال وما يترتب عنها من مفاعيل ولا يتعاطى بأيّ شقّ متعلّق بالعقيدة"، و"كلّ المواطنين اللبنانيين المسلمين والمسيحيين، يعقدون زواجهم خارج لبنان وفق القانون المفروض في بلد الإقامة، ويسجّلون أولادهم وفق هذا القانون، وهذا لا يجعلهم ملحدين أو غير متديّنين ولا يمسّ عقيدتهم. لماذا إذاً يتقبل اللبناني القانون المدنيّ للأحوال الشخصية خارج لبنان ولا يتقبّله في وطنه؟".

أليست "إلزامية" قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية رفعاً لسقف المطلب على نحو مبالغ به؟

إنّ إلزامية القانون هي "تصويب لطرح قانونيّ خاطىء في مصطلح "القانون الاختياري". فقانون الدولة لا يمكن أن يكون اختيارياً، لأن الدولة تضع قوانين ملزِمة على جميع الأراضي التابعة للدولة والمواطنين والمقيمين. إن مبدأ القانون الاختياري بدعة لبنانية، لذلك نحن نؤكّد على صوابيّة الطرح. وعند اعتماد قانون مدنيّ موحّد للأحوال الشخصية، تغدو القوانين الدينية هي الاختيارية. بمعنى القانون المدني يكون ملزماً باستثناء من اختار اللجوء إلى الطوائف. نحن نرفض الإبقاء على القوانين الاختيارية الطائفيّة، لأننا لا نريد ولادة الطائفة الـ19، وتوسيع فجوة التمييز بين المواطنين. الهدف الأول من قانون موحّد ملزم للأحوال الشخصية هو استعادة العلاقة المباشرة بين المواطنين والدولة، لا عبر الطائفة".

من ناحية ثانية، "هذا القانون لا يرتبط فقط بالزواج، إنما يرتبط بتسجيل أفراد الأسرة في النفوس. فهل من الممكن أن تكون طريقة تسجيل المواطنين مختلفة؟"، كما أنّ "القانون الذي نطالب به يشمل جميع الأحوال الشخصية للفرد، منذ لحظة ولادته وحتى وفاته، لا فقط موضوع الزواج. أضف إلى أنّ تغيير سجلات نفوس المرأة المتزوجة، والاعتراف بالمرأة كفرد مستقلّ لها خانتها الخاصّة يُسجّل عليها أولادها، هو أمر لا يستطيع أن يقوم على مبدأ اختياري".

*الأسماء المشار إليها هي أسماء مستعارة لتمويه هوية أصحابها.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم