الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

هجرة غير شرعية في وطن "غير شرعي"

المصدر: "النهار"
ديما عبد الكريم
ديما عبد الكريم
مشهد الجثة العائمة على سطح البحر بعد غرق "مركب الموت" قبالة أرواد ومشهدية ضحية انفجار مرفأ بيروت.
مشهد الجثة العائمة على سطح البحر بعد غرق "مركب الموت" قبالة أرواد ومشهدية ضحية انفجار مرفأ بيروت.
A+ A-
كم يشبه مشهد الجثة العائمة على سطح البحر بعد غرق "مركب الموت" قبالة أرواد مشهدية ضحية انفجار مرفأ بيروت التي ظهرت فيها اليدّ الممدودة من النافذة بعد أن غرقت سيارتها جراّء عصف الانفجار.

كم تشبه دموع العائلات الثكلى بعضها البعض في الألم العاجز وقلّة الحيلة ومحاولات النجاة من الحياة بأقل الخسائر، بدل التمسّك فيها بالأنياب.

كم يلزم هذا البلد الذي لم يفلح في إسعادنا بشيء، بعد من المآسي، وسماد الأحلام الضائعة، لينضج وطناً  لا يُبنى على جثثنا. 

يتناوبون علينا بأنواع التعذيب شتى، وبعيون وقحة تراهن على صمتنا واستسلامنا للموت المحتوم.

يتناوبون علينا بتغريدات وتصريحات وتحقيقات مفتوحة، وببيانات تعزية يدعون لنا فيها بأن يلهمنا الله الصبر والسلوان. يتناوبون علينا بالتعازي الحارّة، وبالإشادة بالتعاون بين الأجهزة مافة لانتشال جثثنا. يتناوبون علينا بجرّنا إلى الانتحار ورسم النهايات ثم ينكّسون الأعلام حداداً. وما أفصحهم حين يذكرون عدد الضحايا الدقيق! 

هناك في عرض البحر، تحلّلت الأحلام، ذابت الخطط، اختلط طعم الجوع بالذل والفقر والحرمان، وبقيت الجثث تطفو على سطح الماء شهدة على ما فعلتموه بنا. هناك في عرض البحر، لا مجال للتحليل والنقاش وإبداء الرأي، ما من متسّع لإيهام أحد بنظريّات المؤامرة والتدخل الخارجي والاقتتال الطائفي، هناك فقط صمت أموات يركضون لاهثين خلف الموت بحثاً عن حياة. فالحديث الأخير على متن المركب حتماً لم يكن في السياسة والاقتصاد وما آلت إليه الأمور مؤخراً في البلاد، ولا عن حرب روسيا وأوكرانيا والتوتر بين الصين واليابان والاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان والاتفاق النووي، لا! بل لعلّها كانت بضع كلمات إلى الله كالتي أصبحنا دوماً ننطق بها "أين أنت يا ربّ من كل ما نحن فيه؟ أترى ما يُفعل بنا؟".

هناك في عرض البحر، حيث وضعوا عاطفتهم التي غلبتها الظروف جانباً وتجرّدوا من خوفهم البائس، لبسوا سترة النجاة من موت يلبس قناع الحياة وهم يعلمون بأنّ الوصول أمراً غير محتوم، تماماً كبقائهم هنا. يا لهذا الكمّ من الأسى الذي يدفع أب لاصطحاب أطفاله على متن مركب خشبي لعلّهم يمكسون بأحلامهم الورديّة. يذهب للبحث عن لقمة عيشه خوفاً من أن يفترسها أصحاب البدلات وربطات العنق، فيصبح البحر أحقّ بها. يستغني عن كل ما يملك لمغادرة هذة البقعة. اليوم نجا والد، ولَم ينج حقاً. مات طفلاه غرقاً، والبحث جارٍ عن طفلين في مياه المحيط الباردة، وعن أم لم تعرف لحظة الغرق بأي طفل تمسك وهي تصرخ مستغيثة: هل من يسمع؟! 

يركضون خلف الأحلام وهي تركض أمامهم، لتنتهي بهم في مقبرة مائية. 

قرأت عند أحد الأصدقاء تعليقاً يقول "لا أحد يضع أبناءه في البحر إلا إذا كان أكثر أماناً". نعم هو الأمان ونحن فاقدوه، وإنّ كانت تسمّى هجرة غير شرعية فإنّ كل ما نعيشه غير شرعي. فالمهرّبون معروفون وبالأسماء وصمت الجهات الأمنية مروّع يطرح علامات استفهام عن حجم التواطؤ وتقاضي بعضها من دولارات البؤساء الذين باعوا ما يملكون في سبيل المجهول. 

ويبقى الناجي الوحيد من ينجح في الإفلات من سماسرة الأحلام.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم