الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"النزاعات في لبنان: الأسباب والحلول"... ورشة تفكير ونقاش

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
إعداد: د. مصطفى الحلوة
 
بدعوة من "مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية"، وبالشراكة مع مؤسسة (Hanns Seidel) الألمانية، وبالتعاون مع "مجموعة حل النزاعات"، تمَّ تنظيم ورشة تفكير ونقاش، على مدى يومَي 31 آذار وأول نيسان 2022 (جبيل – القاعة 1188 للمحاضرات)، وذلك بعنوان:" النزاعات في لبنان: الأسباب والحلول". وقد شارك حضورًا ممثل للسفارة الفرنسية في بيروت، وممثل لقوات حفظ ا لسلام الدولية في لبنان (Unifil).
 
في الجلسة الافتتاحية، تعاقب على الكلام: رئيس "مركز تموز "د. أدونيس العكره، مندوب "هانز زايدل" في لبنان الأستاذ طوني غريِّب، العميد د. توفيق سليم، باسم "مجموعة حل النزاعات". كما كانت كلمة، في مستهل ثاني يَومَي الورشة، للسيد كريستوف دوفارتس، المسؤول الإقليمي لـِ"هانز زايدل"، القادم من الأردن. وقد تضمّنت الورشة ست جلسات، قُدِّمت فيها عشر مداخلات (أوراق عمل) من قِبل: العميد د. عبد الرؤوف سنّو، د. خلدون الشريف، الوزير الأسبق د. عدنان منصور، الأستاذ فادي أبي علاّم، د.حُسام مطر، الأب د. باسم الراعي، العميد د. طلال عتريسي، د. لينا علم الدين، د. ريما زعزع، الوزير الأسبق د. طارق متري. كما كانت مداخلة ختامية، قدّمها د. إيلي الهندي. علمًا أن الجلسات الست اتخذت العناوين الآتية: الأسباب التاريخية للنزاعات في لبنان/ دور القوى الخارجية في النزاعات اللبنانية/ دور الأحزاب اللبنانية في نشوء النزاعات ومعالجتها/ دور الطوائف في نشوء النزاعات ومعالجتها/ دور المؤسسات الدولية في حلّ النزاعات/ دور الحوار في حلّ النزاعات.
 
تخلّل الورشة تعقيبات وازنة، إلى حوار تفاعلي، رفع من وتيرته طغيان الحضور الطالبي من "كلية الحقوق والعلوم السياسية- الجامعة اللبنانية، الفرع الثالث". 
 
وفي نهاية أعمال الورشة وُزِّعت شهادات مشاركة على عددٍ من الطلبة الجامعيين. وإذْ تمَّ الخلوص إلى البيان الختامي، فقد تضمّن المحاور الآتية:
 
أولاً- في تحديد المفاهيم وتصويب بعض الحقائق/المُسلّمات
 
1- من الأهمية بمكان، في مقاربتنا النزاعات وما تُثير من قضايا ومصطلحات، إعادةُ النظر في تحديد المفاهيم، من منطلق أنْ ليس من مفهوم بريء، فكل مفهوم ذو حساسية مُعيَّنة، لارتباطه بسياقات سياسية واجتماعية وتاريخية. وإلى ذلك ينبغي إعادة النظر في بعض الحقائق وعدم تقبُّلها كمُسلَّمات غير قابلة للنقاش.
 
2- النزاعات هي من حقائق التاريخ البشري وثوابته. ولأنها، على هاتين الصفتين، فهي باقيةٌ ما استمرّت الحياة على كوكبنا. وتكمن النزاعات في التفاعل بين طرفين على الأقل، بحيث يُشكِّل هذا التفاعل معيارًا أساسيًّا لتصنيف النزاعات.
 
3- علم اجتماع النزاعات - وهو علمٌ حديث- يذهبُ إلى أن النزاع بين البشر حالةٌ طبيعية، حتميّة وضرورية، كونها تُحفّزُ حركية المجتمع، ضمن ضوابط قانونية/ حقوقية واجتماعية، وبما يُفضي إلى تطوير العلاقات بين الأفراد والجماعات، في حدود السلام والعدالة. في حين أن الصراع هو حالةٌ عنفية، لا تتوافق مع القيم والشرائع وحقوق الإنسان. علمًا أن الإلتباس بين مفهومي النزاع والصراع قائمٌ، على المستويين، اللغوي والاصطلاحي.
 
4- النزاعات ظاهرة قابلة للتغيُّر "التصاعدي"، فهي قد تنتقل من حالتها الكمونية إلى حالة من الصراعات العُنفية (الصراعات المسلحة). من هنا وجب التمييز بين مفهومَيّ النزاع والصراع. علمًا أن لحظة العبور من النزاع إلى الصراع العنفي هي لحظة إفلاس عقلي وحقوقي.
 
5- استكمالاً، النزاعات هي آلية تحويرية، بمعنى أنها تحرفُ اهتمام الجمهور عن قضية إلى قضية أخرى. وبذا، فهي ليست أمرًا عفويًّا طارئًا. بل هي جزء من اللعبة السياسية. وغالبًا ما تكون استخدامية، أي قابلة للتوظيف، أسلبيًّا كان أم إيجابيًا.
 
6- مفهوم النزاع بات مُستخدمًا في الأدبيات السياسية والاجتماعية وفي مجال علم النفس، بمعانٍ ومضامين عديدة:"(تضارب المصالح/ صراع الحضارات والثقافات/ الصراع النفسي...).
 
7- مفهوم الخلاف (Dispute) مُتضمَّنٌ في النزاع، بل قد يكون الطريق إليه، مما يعني أنه أقلّ درجة من النزاع، ومن الصراع استطرادًا.
 
8- في وسم العداء بين العرب وإسرائيل، يتمّ استخدام تعبير "الصراع العربي- الإسرائيلي"، أكثر من استخدام "النزاع العربي- الإسرائيلي"، ارتكازًا على الحروب التي خيضت بين الطرفين، من حروب "كلاسيكية" و"مقاوماتٍ " شعبية.
 
9- في تحديد بعض المفاهيم التي تُثار لدى مقاربة النزاعات، ينبغي التمييز بين السجال (Débat ) وبين الحوار (Dialogue). ناهيك عن الفرق بين الحوار والتفاوض، مُشدّدين على عدم إلباس التفاوض حِلّة الحوار، وينبغي كذلك عدم الخلط بين الحوار وبين الملاطفة أو المسايرة.
 
10- في تصويب بعض الحقائق/ المسلَّمات- وبما يتعلّق بمفهوم النزاعات- كان الأجدى إعادة النظر في مقولة اللاهوتي السويسري هانس كونغ، التي يُردِّدها، عن ظهر قلب، المشتغلون بالحوار بين الأديان، وهي :" لا سلام بين الأمم من غير سلام بين الأديان"، فيُقال: " ليس من سلامٍ بين الأديان من دون سلام بين الأمم وداخلها". وتعليل ذلك، بحسب د. طارق متري، أن عبارة كونغ تُوحي بأن الأديان، أو بالأحرى أتباعها، هم في ما يُشبه حالة حرب بينهم. وإلى ذلك، فإن معالجة الحروب، بواسطة الدين، لا تصنعُ سلامًا بين الأمم، وإن كانت تُخفّفُ، بعض حين، من وطأتها.
 
11- بصدد إسدال الستار على الصراع العربي الإسرائيلي، يتمّ الترويج، في ظل مرحلة التطبيع مع العدو الإسرائيلي، لمقولة "التصالح في الإبراهيمية"، أي نبذ الخلافات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث... وكأن ما حصل من اغتصاب لفلسطين (1948)، ومن تطهير عرقي، واتساع الانشطار الاستيطاني هو صراع بين إسرائيل (ابن إسحق) وبين إسماعيل. هكذا يُسخَّر القصص الكتابي لتسويغ التقاسم بين أحفاد إبراهيم، فيعود أحفاد إسرائيل إلى أرضهم - كما يزعمون- وأحفاد إسماعيل إلى صحرائهم! أما الحوار حول القدس، وبمعزلٍ عن قضايا السيادة والسكّان والحقوق، فتجعلها هذه المقولة/ المغالطة، في أحسن الأحوال، مُلتقًى رمزيًا للديانات، سواءٌ أبقي فيها مسلمون ومسيحيون من أهلها أم رحلوا!
 
ثانيًا – في الرؤى وحقائق النزاعات في لبنان
 
1- إذْ يُشكِّلُ لبنان جزءًا من المنطقة، كما العالم الأوسع، فهو عُرضةٌ لنزاعات، تستبدُّ به، منذ مُنتصف القرن التاسع عشر، ولا يزال رازحًا تحت أشكال من النزاعات بين مكوِّناتِهِ، تترجَّحُ بين نزاعاتٍ"باردة"- إذا جاز القول- وبين نزاعات، تفجَّرت صراعاتٍ، أفضت إلى احترابات  داخلية، مُخلِّفةً مآسي، ما فتئت تشدُّ البلاد إلى الوراء، عبر كل جولةٍ من جولات العنف التي تشهدها كل عشر أو خمس عشرة سنة.
 
2- نجح الجنرال غورو في إنشاء دولة طائفية في لبنان (1920)، وليجدَ اللبنانيون أنفسهم، بعد نيِّف ومائة عام، أن هذه الدولة لم تُحقِّق آمالهم المنتظرة، إذْ ارتفع منسوب الطائفية فيها. وبالمقابل، فهم لم يعملوا على تطوير صيغة تعايشهم، منذ الميثاق الوطني (1943)، ولا بعد "اتفاق الطائف"، الأكثر طائفيةً، باتجاه المواطنية والدولة المدنية الحديثة. وكان جرّاء ذلك وصول البلاد إلى مفترقات خطرة، تتجسّد راهنًا في الأزمة المصيرية الوجودية، بتداعياتها الكارثية المدمِّرة، على جميع الصُعُد. 
 
3- عند تأسيس لبنان الكبير، تصدَّرت أطروحة الهُويّة النزاعات بين اللبنانيين. وإذْ هَمَدَ النزاع الهوياتي مع الميثاق الوطني، وفي السنوات الأولى من العهد الاستقلالي، فقد عاد الصراع من جديد بين مكوّنات الشعب اللبناني، مع المدّ الناصري في المنطقة، فانشدَّ المسلمون إلى الوحدة المصرية - السورية، في حين انتاب المسيحيين قلقٌ على "لبنانهم" المستقلّ، من مشروع وحدوي إسلامي، يزحف عليهم برداء العروبة. علمًا أن المسيحيين لم يتنكروا يومًا لعروبتَهم، فقد كانوا روّادها، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
 
4- إن انحياز المسلمين في لبنان إلى المقاومة الفلسطينية، بدءًا من نهاية ستينيات القرن الماضي، بهدف التعبير عن هويتهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، عزّز من وتيرة النزاعات في لبنان. وقد كان لبعض القيادات الإسلامية أن تستقوي بالمقاومة الفلسطينية المسلحة، لانتزاع ما يمكن من الامتيازات المارونية. هكذا تولّدت مخاوف لدى الموارنة على دور لبنان الاقتصادي والخدماتي، كما على ريادتهم في البلاد. وقد جاء "اتفاق القاهرة" (1969) ليزيد طين النزاعات بلّة، إذْ تنازلت الدولة عن سيادتها لمناطق واسعة من الجنوب اللبناني للمقاومة الفلسطينية. وقد شكَّل ذلك أحد العوامل الأساسية في اندلاع حرب السنتين (1975- 1976).
 
5- خلال الحرب "الأهلية"، ظهرت هُويّات طائفية، إسلامية سُنيّة (حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس وسواها)، وشيعية (حزب الله وسواه)، إلى أصولية مارونية. وقد امتدّت أزمة الهويات الطائفية إلى جميع إدارات الدولة ومؤسساتها، وإلى الجامعات، وسائر الأُطُر المجتمعية.
 
6- شكَّل إغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005) محطةً مفصليّة، في مسار النزاعات والصراعات بين مكوِّنات الاجتماع اللبناني، مُتجسِّدة في فريقي 8 آذار و14 آذار. وقد بلغ النزاع ذروته في أحداث 7 أيار 2008، التي تمخَّضت عن "اتفاق الدوحة". وقد حفلت المرحلة الممتدة من هذا الاتفاق وحتى تاريخه بكثير من الأحداث، التي أذكت النزاعات السياسية والطوائفية، ولنجدنا بإزاء دولة فاشلة ومنهارة، ماليًا واقتصاديًا ومؤسساتيًا وإداريًا.
 
7- من تجليّات النزاعات في لبنان تصاعد السِجال حول الصِيَغ العتيدة للنظام السياسي، وهي تترجّح بين إلتزام "الطائف"، مع تنفيذ جميع البنود التي لم تُنفّذ (اللامركزية الإدارية الموسَّعة/ مجلس الشيوخ/ قانون انتخابي على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي..)، وبين الدعوة إلى الفدرلة، وإلى مؤتمر تأسيسي مفتوح على خيارات مُتعدِّدة. ناهيك عن الدعوة إلى حياد لبنان وتدويله، تُقابلها دعوة مُضادة، ترى إلى الحياد والتدويل استهدافًا لحزب الله وتجريدًا له من سلاحه.
 
8- إندراج أحداث (ثورة) 17 تشرين 2019 في مسار النزاعات اللبنانية، مُشكِّلةً عاملاً إضافيًا في تسعيرها، عبر طروحات مُتعدِّدة، من إسقاط النظام، بكل ركائزه، إلى إصلاحه وترشيده، علمًا أن النزاعات تسلّلت إلى صفوف "الثورة"، مما أضعف حراكها وشكَّك في صُدقية القائمين بها. وقد تبدّى ذلك في عدم توصّل "الثوار" إلى تشكيل لوائح إنتخابية موحّدة، على مستوى الجغرافيا اللبنانية. وهذا يؤشِّر على أن "المنظومة"، منظومة الفساد والإفساد، ستُعيد إنتاج نفسها، مع تبدّلات طفيفة، لا يُعتدُّ بها.
 
9- وفَّر النظام السياسي الطائفي مُناخات ملائمة للتدخلات الأجنبية في لبنان، مُشكِّلةً عاملَ تأجيج إضافيًا للنزاعات التي تشهدها البلاد، منذ أمدٍ بعيد. فالدول الخارجية تعمل لمصالحها الذاتية، مُستغلَّةً الخلافات الداخلية، فتدعم فئةً ضد أخرى وتستعدي طائفة على طائفة، كل أولئك تحت ذريعة "الحمايات". في حالات كثيرة، شكَّل الخارج عامل تعطيل لعدة مبادرات لبنانية داخلية تسووية، والشواهد كثيرة.
 
10- من تجلّيات النظام الطائفي أنه أوجَدَ، لدى النخبة الحاكمة، ثقافة سياسية مُسيطرة، يُطلق عليها بعض المشتغلين بعلم السياسية "ثقافة القناصل". إشارةٌ إلى أن ما يحصل في لبنان راهنًا ليس مختلفًا، جوهرًا وشكلاً، عما جرى في القرن التاسع عشر (الجبل اللبناني/ عهد القائمقاميتين)، لجهة اعتماد هذه الثقافة.
 
11- يرى بعض المنظّرين في علم السياسة أن التدخلات الأجنبية في لبنان تُعزى إلى أن هذا البلد تنطبق عليه مقولة الدولة/ الحاجز (Buffer – State)، التي تُعرَّفُ بأنها دولة، تقع وسط منطقة مواجهة استراتيجية، بين قوى إقليمية ودولية. وتتميّز هذه الدولة بوجود سلطة هشَّة، يُرافقها تشرذم اجتماعي. هذا الوضع غير السويّ، يدفع الدول الكبرى لتحويلها إلى منطقة حروب بالواسطة (حروب الآخرين على أرض لبنان بأيدٍ وأدوات لبنانية).
 
12- إذْ تبدو المنطقة كلها أمام احتمالات وجودية مُغلقة، فإن لبنان، من هذا المنظار، سيكون جزءًا من لوحةٍ كئيبة، تشمل سوريا والعراق وفلسطين.
 
13- إن الأفكار الدينية وحدها لا تصنع حربًا بين الأمم وداخلها، بيدَ أنّ النزاعات السياسية، التي تغتذي من مشاعر دينية، تصل بأصحابها أحيانًا إلى اعتناق إيديولوجية إلغائية، قد تكون دينية حينًا أو غير دينية.
 
14- منذ قيام لبنان الكبير، إصطنع الفرنسيون جماعاتٍ طوائفية، وزّعوا عليها الامتيازات والحصص، مع أرجحية للطائفة المارونية. وقد كان للنمط التحاصصي أن يغدُوَ من الركائز الأساسية للنظام السياسي اللبناني حتى يومنا هذا.
 
15- إن العمل الديني من أجل السلام بين الأمم وداخلها ضروري لتمتين العلاقة بين المعالجات الفعلية والمصالحات الرمزية، فتُصبح الثانية مُفيدة للأولى، لا تعويضًا عن غيابها.
 
16- بهدف وضع حدّ للنزاعات والصراعات، التي تفتك بلبنان وتستنزفه في مختلف المجالات، كان للمرجعيات الدينية/ الطوائفية أن تطرح مبادراتٍ، كان أبرزها حياد لبنان وتدويل الأزمة اللبنانية (البطريركية المارونية). وقد رُفضت هذه المبادرة من قبل "الثنائي الشيعي"- كما أسلفنا آنفًا- وقُوبلت بحذرٍ شديد من الطائفة السُنيّة.
 
17- ارتدَت الأحزاب السياسية في لبنان، من الناحية الشرعية، لباسًا حقوقيًا مدنيًا، ولكن الواقع الذي تعيشه، على مستوى الممارسة، كان خلاف ذلك. فجُلُّ الأحزاب في لبنان طائفية (أحزاب الطوائف)، تُشكِّل جزءًا من "المنظومة". حتى أن بعض الأحزاب العقائدية (العلمانية) دخلت في لُعبة السُلطة، بشروط السلطة، مُسهمةً في إعادة إنتاج وديمومة النظام الطائفي.
 
18- لم تسعَ غالبية الأحزاب في لبنان إلى تعزيز الديمقراطية والتعبير عن هموم الناس، ولم تلعب دور الوسيط الموثوق به بين المواطن والدولة. فقد كان همّها الأول، الفوز بثقة الناخبين وأن تغدو جزءًا من السلطة القائمة.
 
19- أدّى تعسكُر أكثر الأحزاب في لبنان و" تميلُشِها" (من ميليشيا) دورًا كبيرًا في تغذية النزاعات في لبنان، بدل أن تكون عامل تطوير ديمقراطي للنظام السياسي. وإلى ذلك، فقد كانت هذه الأحزاب/ الميليشيات تنفّذ سياسات الخارج وأجنداتِهِ، ضد مصلحة لبنان العُليا.
 
20- إنخراط "حزب الله"، في الشأن اللبناني الداخلي، منذ العام 2006، وتنامي دوره السياسي، وبما يتعدّى حدود لبنان، عزّز من مخاوف سائر الطوائف اللبنانية، لا سيما المسيحيين، لتماهي عقيدته الدينية مع ممارساته السياسية.
 
21- التنافس بين الأحزاب السياسية أفضى إلى حالة من الصراع داخل طوائفها نفسها، بما جعل هذه الأحزاب مهيمنةً في مجالها الطائفي وليس الوطني. ومن تجليات هذا التنافس، التنافس على موارد الدولة والقطاع الخاص، كما التنافس على "الوكالة" للخارج، أي تقديم أوراق اعتماد للدول الخارجية.
 
22- بما يخصّ دور المنظمات الدولية، بمواجهة النزاعات في لبنان، فهو ذو مروحة واسعة جدًا. وتمثيلاً لا حصرًا، يُمكن التوقف عند مجالات التدخل الآتية: تعزيز الأمن الاجتماعي من خلال آليات الاستقرار والتنمية المحلية/ إشراك كل فئات المجتمع وشرائحه بمسار التنمية وصُنع القرار ، من خلال استحداث إطار محلي (لجان محلية)/ تطوير قُدُرات البلديات في إدارة عملية التنمية/ دعم أفراد المجتمع المحلي كافة في الوصول إلى الخدمات الأساسية وسُبُل عيش كريمة/ تعزيز مساحات إعلامية بديلة لخطاب هادئ ومُتنوِّع/ تعزيز ثقافة السلام واللاعنف في التربية والبيئة المدرسية/ التعامل مع الماضي، من منطلق تنقية الذاكرة والاتّعاظ من تجارب الماضي المُرَّة.
 
23- إذْ غدا الحوار صناعةً رائجة، يختلط فيها الرصين بالخفيف، وإذْ أضحى فضُّ النزاعات اختصاصًا أكاديميًا أو شبه أكاديمي، فهما لم يُؤتيا ثمارًا، بالقدرِ الذي يعِدُ القائلون بهما، فكل طاولات الحوار ومؤتمرات الحوار في لبنان وخارجه، وعلى مدى العقود الماضية، لم تُفلح إلا في الإتيان بحلول ترقيعية. فسرعان ما كانت النزاعات الكامنة تستفيق، كما الخلايا النائمة، عند كل استحقاق سياسي أو دستوري.
 
24- تأسيسًا على ما سبق، كلما تكاثرت مبادرات الحوار ومؤسساته، أو تناسلت، من دون وعي عميق للدور وتحديد دقيق للمهمات، تراجع الاهتمام بها وقلّت الاستجابة لها. وهذا ما أفضى إلى الكلام على إدارة النزاعات وليس حلّها.
 
ثالثًا- في الأسئلة/ الهواجس
 
انطلاقًا من كل ما سبق، وقبل الشروع في تطارح بعض المقترحات والتوصيات، ثمة أسئلة / هواجس، لا بد من التعريج عليها، أبرزها:
 
1- هل النزاع في لبنان هو نزاعٌ بين طوائف أم هو نزاع حول خِيارات سياسية محلية/ إقليمية/ ودولية؟
 
2- هل دخل لبنان، بنزاعاته، راهنًا، في خضمّ إعصار إقليمي- دولي، أم أُدخِل فيه عنوةً، حيث خَلْطُ أوراق وعمليات رسم خرائط جديدة للمنطقة، بما قد يجعله مرتعًا لمزيدٍ من النزاعات المفتوحة، ويُقدَّم، نهاية المطاف، جائزة ترضية لواحدٍ من أطراف الصراع في الإقٌليم؟ علمًا أن للبنان، مع جوائز الترضية، سجلاًّ حافلاً معروفًا.
 
3- هل يُريد اللبنانيون الحفاظ على تسوية "الطائف"، التي أنهت حربًا، امتدت خمس عشرة سنة، وخلّفت الويلات، على جميع الصُعُد؟ أم أنهم بصدد إعلان انتهاء صلاحية هذه التسوية، سعيًا إلى صيغة لنظامهم السياسي جديدة؟
 
4- إذا كان للطوائف وللأحزاب السياسية في لبنان دورٌ في نشوء النزاعات وتأصيلها، فكيف يُطلب إليها الإسهام في فضّ هذه النزاعات، والعبور بالبلاد إلى شاطئ الأمان؟
 
5- هل إلغاء الطائفية السياسية يُؤمِّنُ الوئام بين مكوِّنات الاجتماع اللبناني، في ظل الخلل الديمغرافي لمصلحة الطوائف الإسلامية؟
 
6- كيف يمكن بناء دولة المواطنية، وَقْتَ تحوّلت طوائف الدولة إلى دولة الطوائف؟ 
 
7- إلى أي مدى، عبر الحوار والمواقف العقلانية، يمكن الوصول إلى حل النزاعات في لبنان؟ وإلى أي حدّ يمكن تحصين لبنان وتحييده عن التدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، التي تُسَعِّرُ وتيرة النزاعات التي يكابدها؟ 
 
8- إذا كان الحوار مطلوبًا، لمواجهة الأزمة اللبنانية، مُتعددة الأوجه، فما هو جدول أعماله؟ وما هي الغاية منه؟ وهل نحن بحاجة إلى قوة خارجية للمساعدة في إنجاز هذا الحوار؟
 
رابعًا- في المقترحات والتوصيات
 
1- إذا كان الطريق إلى السلام لا يقوم بالضرورة على حلّ النزاعات، بل على صناعتها، في كثير من الأحيان، يجب أقلَّه إدارة النزاعات التي تُؤدي إلى التطوير والتجدّد والخلق والإبداع. وبالمقابل، فإن النزاعات التي تُفضي إلى انتهاك حقوق الإنسان وَجَب حلّها، أو الوقاية منها، عبر حملات مُناصرة ومدافعة لاعُنفية، إلى وسائل أخرى.
 
2- إذْ نُثمِّنُ عاليًا الإنجازات الرئيسة، التي حققتها المؤسسات الدولية في لبنان، ينبغي متابعة تدخّلها بوتيرة أعلى، وبالتوازي مع التدهور المُريع الذي تشهدهُ البلاد، منذ ثلاث سنوات، بما يُعزِّز من مساحات التنمية المحلية والاستقرار والسلم الأهلي، وصولاً، نهاية المطاف، إلى التخفيف من المؤثرات السلبية للنزاعات.
 
3- إدماج ثقافة السلام واللاعنف في المناهج الدراسية (المدارس والجامعات)، والتربية على هذه الثقافة، بما يكفل تنشئة جيلٍ واعٍ، يُراهَن عليه لتعافي البلاد.
 
4- لا خلاص للبنان ناجزًا، ولا طيَّ لنزاعاته، مُزمِنِها وحديثِها، والمتناسلة باستمرار، إلاّ بالعبور إلى دولة المواطنية، دولة الحقوق والمؤسسات، دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
 
5- حبّذا لو يدرك اللبنانيون، بمختلف مكوّناتهم المجتمعية وعوائلهم الروحية، لجهة العلاقة مع بعضهم البعض والنظر إلى الآخر المختلف، البُعد الإنساني الذي يشي به قول الإمام علي بن أبي طالب (ع):" الناسُ صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق".
 
6- الطلب إلى الجماعات الدينية، لا سيما مرجعياتها، أن يكون لها دورٌ بنّاء لا صراعي، فتعود بالدين إلى منابعه، عن طريق الحوار والنقد والمساءلة، والبحث في تراثه عن مكامن القوة الروحية والأخلاقية، التي تدفع إلى التسالم والتحرّر من عبء العداوات المزمنة، ومحاذرة استئنافها، أو بالأحرى إعادة "اختراعها".
 
7- استكمالاً، على أهل الأديان اكتشاف القيم المشتركة، والبناء عليها، تحقيقًا للتسالم والعيش معًا، واستلهام هذه القيم في النقد الأخلاقي لممارسات سياسية، يطغى فيها الصراع على السلطة، أو الاستئثار بها، على السعي وراء الصالح العام.
 
8- باسم الواقعية والاستقامة الأخلاقية، يجب مُحاذرة الوقوع، في رد أسباب نزاعاتنا والمحرّكات إلى الدين دون سواه. فهو ليس المحرّك الأول للصراعات، وإن لم يكُنْ غريبًا عنها.
 
9- إن مقارعة الفكر الديني الإلغائي باتت حاجةً مُلِحَّة، كما التربية على المواطنية وقبول الآخر المختلف، وارتضاء التنوّع، مصدرًا لإثراء التفاعل والتبادل، لا للفرقة.
 
10- لأن النزاعات والصراعات تنبني (توريثًا أو تخطيطًا) في عقول الناس، أوّل الأمر، فمن هنا يجب البدء، أي العمل على توعية الفرد وتبصيره بالمخاطر الوجودية التي تنجم عنها، وتحصينه بالخيارات التي تكفل مُعافاة البلاد وإبلالها من عللها المزمنة.
 
11- خلق الإنسان / الفرد المُحاوِر، على قاعدة أنْ لا أحدَ يملك الحقيقة المطلقة، ورفض أو محاكمة الأحكام المسبقة والقوالب المنمّطة، وضرورة تحدّي الذات، عبر الخروج من المنطقة الذاتية الآمنة والانطلاق إلى الآخر المختلف لتفهّمِهِ، وبما يُفضي إلى معالجة الماضي والشفاء من أعبائه.
 
12- الذهاب إلى ما ندعوه حوار الناس، حوار المسيحيين والمسلمين، وليس الحوار المسيحي- الإسلامي، بصيغتِهِ التقليدية، التي نشهد فصوله منذ عقود، من دون أن يؤول إلى نتائج ملموسة.
 
13- إذا كان همّ الأحزاب، بعضها أو معظمها، حماية البلد، فإن عليها التزام: ثقافة السلام، عدم اللجوء إلى العسكرة، النضال في سبيل العدالة الانتقالية، إصلاح النظام القائم عبر الإسهام في إلغاء الطائفية، بمختلف ألوانها وأعراضها.
 
14- نشر ثقافة المسؤولية الوطنية (دور المدارس والجامعات وسائر الأطر المجتمعية)، لدى المواطنين، وأنسنة الخطاب اللبناني، في مختلف المجالات، مع الحاجة إلى إبرام عقد جديد حضاري بين الدولة ومواطنيها.
 
15- لبنان، في نزاعاته وصراعاته، يحتاج إلى نقاش هادئ وعلمي بين جميع مكوّناته وعوائله الروحية، إذْ المبادرة إلى أي خطوة غير مدروسة، قد يُرتِّب مخاطر جمّة على مصير البلاد.
 
16- تثمين الدور الذي يقوم به "مركز تموز"، بالشراكة مع مؤسسة "هانز زايدل"، عبر مختلف فعالياته وورش عمله، لتكريس المواطنية والتربية عليها، وتسليكها مُعاشًا يوميًا. كما التنويه بالدور الذي تؤديه "مجموعة حلّ النزاعات " في لبنان، المتمثِّل في نشر ثقافة الحوار وحلّ النزاعات، مُتعاونةً مع مختلف الهيئات والمؤسسات التربوية والتعليمية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية والبلديات.
 
17- التنويه بمشاركة العنصر الشبابي، لا سيما الجامعي، في ورش عمل "مركز تموز" ، إذْ تُسبغُ عليها، بطروحاته المتحررة والبعيدة عن الحسابات الضيقة، ديناميةً وصُدقيةً، مما يدفعنا إلى توسيع مساحة هذا الحضور، من منطلق الرهان على هذا العنصر، لقيادة عملية التغيير والارتقاء بالبلاد.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم