السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

تاج سامر البرقاوي

المصدر: "النهار"
عبيدو باشا
تيم حسن.
تيم حسن.
A+ A-
لا يزال سامر البرقاوي يقدّم "درامات" كالقصائد على الصعيد البصري. هذا دربه منذ الجزء الخامس والأخير من "الهيبة". شراكته مع تيم حسن تجري من تحتها الأنهار. شراكة صادقَين مع النوايا. ذلك أنّهما مؤلفا شراكة الدروب والأماني. لا تزال دراما "الزند" أيقونته. أحسب أنّها لن تتكرّر، لأنّها أقامت لحظات عالية من العناق الجميل بين مختلف العناصر، من النصّ إلى الإخراج إلى الأداء والأزياء (رجاء مخلوف في قراءة تقيم الهوية في الزيّ). الأداء عنصر أساس في دراماه .
 
لذا، يقف على السدّة. ترتجف الأدوات الأخرى وتتخلف عن أدوارها المرصودة كلما ابتعدت عنه. هكذا، أومض الزند منذ البداية في "كاستينغ" رابح. لا عنصر يقيم عرشه على عروش العناصر الأخرى. لأنّ هارمونيا البرقاوي تقوم على الجدل، على الجدليّة. لا نصوص هلاميّة. نصوص واضحة. نصوص تقدّم أفعال الرجاء للإخراج الرؤيويّ. ذلك أنّ الإخراج عند البرقاوي رؤية. براهين العين. نصوص بلا لطخات. نصوص لا تأكل معانيها. إنّها تقوم على نظام الورشة.
مجموعة تغالب زرع الحيرة في النصوص. نصوص ملؤها الوقت والطرق وفيضان المعنى. ولد عمر أبو سعدة مذ انتهى البرقاوي من الهيبة. نصّه الأول، الزند، نصّ كالحلم. نصّ مكتوب برؤوس الأقلام، ما جعل العمليات الإخراجية تفيق على سحر الأمكنة والأزمنة وهي تحرث في مرحلة الاحتلال التركيّ. أخرج البرقاوي كلّ متاع في الزند بلمسات سحريّة.
وبقدر ما آخى النصّ الإخراج في الزند، جاء نص تاج (عمر أبو سعدة مرة أخرى) بعيداً من طقوس الحرائق. أوراق. أو نصوص كالمذنّبات. نصوص بلا ملح، بلا سكّر. نصوص صفحات على صفيح بارد. ما لم يكفِ البرقاوي. ما دفعه إلى أن يقود قطاره أمام دخان النصّ لا أمامه. نحن في مرحلة الاحتلال الفرنسيّ. كأنّ تاج الجزء الآخر من الزند، ولو أنّ الأول نصّ طارئ على المرحلة. نصّ موظف، لا نصّ يمجّد نفسه في جسد الإخراج. نصّ معطوب. توصيف قاسٍ.
 
ولكنّه كذلك، لا يعيش في نبات مع نفسه ومع الأدوات الأخرى. لم يوجد الشريط المشهديّ بأعطاب من قوّة سامر البرقاوي، من تجربته، من حروبه للأمر الواقع وحروب الأمر الواقع عليه، وقدرته على التعامل معها. تحدّي النصّ واحدة من معاضل تاج. نصّ أداء أدبيّ على عجل، بعد أن كفّن الزند حقبة الاحتلال التركيّ بفتح اليدين على شفرات حلاقة كلّ ما مضى. وجد الزند كالرصاص. سابق الرصاص. لا يزال كالوشم على لحم المشاهدين.
 
لا تملك الأجزاء الثانية سوى أنصاف الذهاب. تقود إلى نزيفها من انزلاقها في موديلها. إذ أنّ موديل تاج (إنتاج شركة الصباح وMBC) هو الزند. ولكنّ تاج يبقى في شهوة الإقامة في الزند بدون أن يقيم فيه. ثمّ أنّ الأجزاء الثانية تهاجم بِوَلَهٍ الأجزاء الأولى، بحيث تهدّد نفسها في الوقوع في بئرها لا على رصيفها الحيّ، بهدف القفز من الرصيف إلى الرصيف. الأجزاء الثانية للأفلام والمسلسلات غبار الأجزاء الأولى. تعلم الجدران ذلك. لا بأس. لأنّ الأرغفة إذ تشبه بعضها، تبقى تملك مذاقاتها المختلفة.
 
وقع البرقاوي في تدابير المشقّة وهو يعالج نصّاً مريضاً تقرع الطبول في رأسه، بدون أن يحسّها الآخرون. لن يفزع من سيرة الزند. لن يخشى الأسماء ولا العناوين ولو أقام تاج على ماء الزند. لوعته قادته إلى ما يستحق القراءة. ذلك أنّ الزند انتهى بالوثيقة في واحدة من اللحظات الخلابة. حين أن تاج يُجَنِّح على الوثائق. لا لأنّها متوفّرة. لأنّها خيار. وهو خيار حمّالة فرح في أوقات، وحمّالة دمع في أحيان أخرى.
 
لأنّ الوثيقة في تاج تؤدّي دورين لا تدور ملائكة الدراما حولهما بالنسبة ذاتها. لنقل أنّ نصّ أبو سعدة في تاج يقتصّ من نصّه في الزند لأنّه لا يوازيه. نصّ مفكّك، لا يقطف حواراته من حرارة التأليف. يقطفها من يدين خلابتين نسيهما في الزند. ما قاد البرقاوي إلى حرقة غياب النصّ العالي في الزند. نصّ أعرج في مهبّ الخيال والتوثيق. ولكن لا الخيال هنا خيال، ولا التوثيق يروي ما هو مشعّ في تأليف ممرّات التيه في التاريخ. هكذا، يراوح تاج بين التغريب والتبعيد. الأوّل وليمة تنهض من حروفها حتّى تؤكّد أنّ ما يراه المشاهد مألوف.
 
وهذا من قوافي المسرح "التغريبيّ البريشتيّ". الثاني يقع في الممرات المجهولة للتركيب. تركيب وتأليف إذن في تاج. ثنائي يندفع في عروقه، بحيث ما ان يشعر المشاهد بقشعريرة في مرحلة حتى يقع في وليمة من التفاصيل الباردة. لأنّ التاريخ يؤطّر، حين يتقفّى أثر نفسه. يترجم نفسه كما يفعل البرد النرويجيّ على الكرة الأرضية. لن تجعل الراوية نفسها نديّة وهي تتوه بين صوت الواقع "المؤرشف" وصوت الخيال. لن يفقد البرقاوي حسّه وهو يؤلّف دراماه على الفتحات المشقوقة بين الواقع "المؤرشف" والخيال. لأنّ الإيقاع يبني ويهدم. وهو يقوم على العلاقة بين الخيال والواقع. الإيقاع شوك دراما البرقاوي وسكاكينه.
 
يقيم البرقاوي دراماه على الألوان وعلى الجلد الغامق للأسود والأبيض. خليط. يقيم في الألوان. كما يقيم في البياض والسواد. بحيث أضحت المشاهد شجراً متكلّماً. حين أنّ النصّ نذر تتبخر في المشهد. ما يوحي بذلك هو الارتجال، إذ يصعد ويهبط في تاج بحذر ينضح بالفطرة. يسوق تيم حسن نصوصه كما تسوق الحرية الأحرار. هو المتوالد في الحلقات كما يتوالد الظلّ من ضوء الإنسان، في مسح سامر البرقاوي الدراميّ القائم على حساب معدّل الأطر بين المشاهد. كما يقوم على فكرة تشكيل الرأي العام من خلال القدرة على تشكيل القيم والمفاهيم والاتّجاهات. صحيح أنّ شراكة البرقاوي وحسن شراكة قيامة. ولكنّ "الكاستينغ" في تاج بعيد من "كاستينغ" الزند الموفّق إلى حدود تنهي عن غرق الاسم في الاسم الآخر. فايا يونان في أوّل أدوارها. بسّام كوسا خاسر في تاج وهو في أقلّ أدواره. كفاح الخوص في أفعاله الملحوظة، ينظم عناصر وجوده. ناتاشا شوفاني فاخرة الوجه في دور الطبيبة. جوزيف بو نصّار زورق عائم وسط الصراع الداخليّ على قبّة سواد العلاقة بين الفرنسيين والسوريين. أندريه سكاف في دور مدير الملهى. في غياب "الكاستينغ" الخصب في تاج، تخسر الدراما جزءاً من قوّتها.
 
حين أنّ "كاستينغ" الزند أحد قرابين الدراما للآلهة السعيدة. تيم حسن، أنس طيارة، فايز قزق، نادرة عمران، دانا مارديني، رهام القصار، فيلدا سمور، نانسي الخوري، وسام رضا، يارا خوري. غابة من مؤدّين يملكون ثمن الوصول إلى الأدوار. لا الخوف سيّدهم. حلّ اللغز سيّدهم وهم يقرأون الأدوار بعيون وأرواح وأجساد واثقة. ّمؤدون ينالون ما يلزم لكي يلد الواحد منهم عالمه الآخر.
 
التاريخ قصص مختزلة في تاج. تيم حسن بيضة القبان في تتابع يقوده أداؤه، كما يقود العناصر الأخرى، إلى التنظيم. تنظيمها. إنّه الأساس في الحدث الأساس والثانويّ والموقف. ولكنّ التاريخ في تاج، على الرغم من نظرته الكوميدية والتعليمية والدرامية والميلودرامية، لا يِعَرِّفُ نفسه بالكمال. ذلك أنّ النصّ لا يبرّر المواقف بالدوافع. نصّ مجموع من ظروف، لا يقدّم منصّة سرد شامل. ثمّ، الموسيقى. لأنّ نجاح الموسيقى في "الزند" دفع مؤلف الموسيقى آري جان إلى وصف موسيقى الزند في موسيقى تاج. استخدام الخلق الأوّل ونجاحه بالدرجة نفسها في الخلق الآخر. ثلاثة عناصر هي في موقع التضادّ مع تقدّم سامر البرقاوي في درجاته البارزة على صعيد تأليف الصورة والمشهد وحياة الدراما.
 
اختلاف بين الأنشطة الفرديّة السابقة على الإخراج والرؤية العامّة للإخراج. بقي البرقاوي يتقفّى نفسه في مداه، بين الوسائط السمعية والبصرية. صاحب حبكة بصرية متماسكة ذات تأثير أكيد من وضعها المبرّر في حبّه للسينما الأميركيّة (الضخامة ودرجات العنف) والسينما الإيطاليّة (تورناتوري على وجه التحديد، حيث تجد السينما هذه ارتباطها بالحياة من خلال ارتباطها بالتفاصيل الداخلية الدقيقة). الأولى رعد. الأخرى وعد. وهو إذ يمزج بين السلالتين يصعد على لغته البصريّة الفذّة بسلاسة مدهشة. هذا الرجل شيطان دراما ولو عاندته بعض الظروف الأكثر تأثيراً في بناء الفعل الدراميّ.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم