شوشو ... مجدٌ لم يكتمل
Smaller Bigger

الدكتور إبراهيم حلواني

 

يحين خلال أيام ميقاتُ الذكرى السادسة والأربعين لرحيل الفنان الكبير حسن علاء الدين، شوشو. (2 تشرين الثاني 1975)

 

سبب كتابتي عن حسن علاء الدين، شوشو، هو أنّ أحدًا حتى الآن لم ينصف هذا الفنان الكبير ويبيّن جوانب مقدرته الفنية الفريدة من خلال تحليل شخصيته وتبيان موهبته وإلقاء الضوء على حقيقة إنجازاته في مجال الفكاهة والتمثيل.

 

وُلِدَ في بيروت 26 شباط 1939، وتوفي فيها في 2 تشرين الثاني 1975. أصله من بلدة جون الجنوبية.

 

 

الموهبة المبكرة وبداية بناء "شوشو"

 

مَن أراد أن يدرس شخصية شوشو عليه أن يُمحّص في حياة حسن علاء الدين قبل بلوغه العشرين.

 

في الثانية عشرة من عمره كانت موهبته في التقليد والتمثيل وابتكار الشخصيات مُبَرْعِمَةً وتوّاقة إلى الظهور.

 

تزوّدنا المراجع بمقتطفات عن طفولة حسن علاء الدين: "كان موهوباً منذ صغره. كان يتفنن في تغيير شكله ويتقمص شخصيات مسرحية أو سينمائية معروفة. كما كان يجمع بعض أقرانه ليقوموا بـ "تمثيليات" ويسردوا قصصاً ويتباروا في ما بينهم".

 

تلك البوادر التي قلّما يأتيها فتى في العاشرة أو الثانية عشرة شكلت أول دليل على موهبة حسن علاء الدين الفنية، موهبة كانت ظاهرة وقوية إلى حدّ جعلته يشكّل في أول طلعته فرقة فكاهية صغيرة.

 

عام 1953، قدّم في بيروت مع بعض الهواة أول مسرحية له: "عنتر بالجندية". ثمّ هاهو يتابع هوايته خِفيةً عن أهله في مسرح فاروق حيث كان يقدم وصلات فكاهية ويمثل شخصيات مبتكرة جديدة. أن تجد فتى في الرابعة عشرة يقدّم مسرحيّة أمام جمهرة من الناس، ثمّ يتابع ما يعشقه على غفلة من أهله، هنا وهناك وهنالك، مبتكرا شخصيات وحركاتٍ، فذلك يعني أنك أمام موهبة تصرّ على شق طريقها بأي ثمن.

 

تلك الممارسات الشغوفة ومحاولات تحقيق الذات المبكرة سيكون لها تأثيرها البالغ في بناء شخصية شوشو اللاحقة وفي رشاقة أدائه وغنى حركاته ومهاراته في الارتجال والابتكار. والنجاح الذي أصابه حسن علاء الدين لاحقا في أعماله التلفزيونية ثم المسرحية، تعود جذوره إلى تلك الفترة التأسيسية من حياته قبل أن يصبح شوشو. فترة عاشها بكل جوارحه، شاحذا موهبته، واثقا بقدراته، مختبرا تجاوب الحضور، متمرنا، متثبتا، ومستمتعا بكل ما يقدمه.

 
 

 

ليس سهلا أن تُضحك الناس

 

أوائلَ الستينات، أطلق شاملٌ "شوشو" في برنامج "دنيا الأطفال" على شاشة "تلفزيون لبنان". كثُرٌ يذكرون عبارته الممغوطة "كيفك يا شخص". لم تمضِ أشهر على ظهوره التلفزيوني الأول حتى عشقه الصغار والكبار وراحوا ينتظرون إطلالته الأسبوعية أو النصف أسبوعية ... وكنتُ وإخوتي من المنتظرين.

 

من السهل أن تكتب عن مأساة، فما أكثر المآسي في العالم، ولكن ليس سهلا أن تخترع نكتة.

 

القصة والحوار من المهمات الصعبة في فنّ الإضحاك. ابتكار القصة صعب، ابتكار المواقف الطريفة صعب، كلّ لقطة يجب أن تكون مضحكة، كلّ عبارة يجب أن تنسجم مع الموقف، كلّ كلمة يجب أن تكون لها وظيفة. حتى اختيار أسماء الشخصيات فن دقيق بحد ذاته، وقد أتقنه شامل إلى أبعد الحدود.

 

كان حسن مُصيبًا عندما أصرّ على ملاحقة شامل والعمل معه، كما تفيدنا المَرويّات.

 

من السهل أن تمثل دور أب مفجوع، أو شاب فقد عمله، ولكن ليس سهلا أن تأتي حركات تفجّر ضحكا.

 

لكي نفهم بحق قدرة حسن علاء الدين وعبقريته الفذة في الإضحاك، لا بدّ من أن نعيَ أنّ أهم شروط النجاح في التمثيل الفكاهيّ هي الموهبة والقدرات التعبيرية والاجتهاد في العمل.

 

التعبير هو واجهة العمل الفكاهي ومحوره. قد يكون التعبير بالحركة أو تقاسيم الوجه أو طريقة اللفظ أو الصوت، أو بردِّ الفعل. إذا استعرضت كلّ الفكاهيين في العالم تجد كلًّا منهم يتميّز بطريقة تعبير فكاهيّة خاصة به. أين كان حسن علاء الدين من تلك الشروط؟

 

 

هل كان شوشو مقلدا؟

 

لم تكن الفرص كبيرة أمام ذاك الفتى ليطّلِعَ، وقتَ تفتّحه على الحياة، على عروض فكاهية. ففي أوائل العقد الثاني من عمره، بداية الخمسينات، بالكاد استطاع متابعة فقرات فكاهية، على الأغلب لشامل ومرعي، إلى قلّة من أفلام مصرية لإسماعيل يس وغيره، أو شرائط في السينما، ربما، لشارلي شابلن ولوريل وهاردي... في فتوّته، وحتى 1960 لم يكن ثمّة بث تلفزيوني في لبنان.

 

في أدواره التي لعبها، لا يبدو أنه كان يقلّد أحدًا من الكبار، من أمثال بشارة واكيم وإسماعيل يس وشارلي شابلن. غير أنّي أعتقد أنّه تأثر بطرائقهم.

 

وللأمر وجه آخر ... عادة، عندما تتفجر موهبة للمرة الأولى في عمل فنّيّ، فهي تأتي مقلدةً أعمالا سابقة. لذلك أفترضُ أنّ حسنًا، ربما، بدأ بتقليداتٍ صوتية لفكاهيين استمع إليهم في الإذاعة. هنا تستوقفني شخصيّة "عبد العفوّ الإنكشاري" التي كان يؤدّيها عبد الرحمن مرعي في الخمسينات، في برنامج "شامل ومرعي" الإذاعي: رجل ساذج يتعامل مع الناس بشيء من البساطة والغباوة. ما زلت أذكره بلهجته البيروتية "ينجلق" بصوته ويمطّطُ فيه ويُرنّحه. الحركات الصوتية عند شوشو، خصوصا في بداياته، كانت قريبة جدا من مثيلاتها عند عبد العفوّ الإنكشاري، لذلك أفترض أن حسنًا ربما قلّد إلى حدّ ما تعابيره اللفظية.

 

المهمّ أنّ حسن علاء الدين تابع بشغف بناء شخصيته الفكاهية المستقلة حتى طلع علينا بـ "شوشو": شخصية فريدة من نوعها، لا أعرف ولا أنتم تعرفون شخصية تشبهها أو حتى قريبة منها.

 

 

التعبير الفكاهي الحركيّ والمظهري عند شوشو

 

الفكاهي الناجح يجب أن تكون له طريقة تعبير خاصة لافتة: تعبير بالمظهر أو الحركات أو الصوت أو ردود الفعل.

 

إذا استعرضت كلّ الفكاهيين في العالم تجد كلًّا منهم يتميّز بطريقة تعبير خاصة به.

 

التعبير الذي أشير إليه يختلف عن التمثيل ولو أنه يتقاطع معه. الفرق بين التعبير الفكاهي والتمثيل كبير: الأول رسم كاريكاتوريّ والثاني تصوير فوتوغرافيّ.  

سيد التعبير الفكاهي في العالم هو شارلي شابلن، لا منازع. استغنى عن الصوت واكتفى بحركة مدروسة غنيّة وقويّة بمعانيها.

 

طوّر شوشو الكثير من التعابير الفكاهية الخاصة به:

 
  • في المظهر: فتى نحيل الجسم، كثيف الشعر أشعثه، كثّ الشاربين، يرتدي سروالا فضفاضا بحمّالتين، وأحيانا يغور في سترة تكاد تبتلعه.
  •  
  • في الحركات: كان كثير التعابير في تقاسيم وجهه: حركات عينيه وشفتيه وكلّ عضلات وجهه ورقبته كانت ظاهرة ومعبّرة ومؤثرة. كان يوظفها ليرسم، بثقة بالغة، لمسات كاريكاتوريّة قوية.
  •  

    كانت حركات يديه الطويلتين جزءا مهما من العرض الفكاهي. كان يطوّح بهما شاغلا حيّزا واسعًا من الفضاء حوله.

    أحيانا كان يستعمل كفّيه ليرسم بهما، إشارة دون صوت، صورا فكاهية مبتكرة تنتزع الضحكة من المهموم، كما تنتزعها من الممثل أمامه، بشكل قسريّ غير مقرر في العرض.

  •  

    كان خفيف الحركة وكثير التنقل على المسرح. أحيانا تراه يتربع على كتف أريكة وأحيانا تراه قافزا "معربشا" على أحدهم. 

    لا تجد مثل تلك الكثافة في الحركات التعبيرية الجديدة والناجحة عند غيره من كبار الفكاهيين.

     

    التعبير الفكاهي الصوتي والانفعالي عند شوشو

    استعمل شوشو كلّ جوارحه في بناء تعابيره الفكاهية: 

  • في الصوت:

    استعمل لهجة بيروتية مطاطة أحيانا ومتكيفة أحيانا أخرى. كان يطوّح بالعبارة كما يطوّح بيديه. كان يدلّل العبارة أحيانا مغمّسة بابتسامة عريضة.

    كان يخطفها أحيانًا مع عبسة ظريفة، لم أعرف العبسات الظريفة إلا عند شوشو. كان يرسلها أحيانا على بساط متموّج من الهسهسات والهمهمات والأهْأهات، أو ما هو مثل ذلك مما لا يُغني فيه الوصف عن المشاهدة والسماع.

  • في الانفعالات:

تضحك عندما يبشُّ لخبر سعيد، وعندما يتكلّف البسمة استهزاءً. تضحك عندما تراه يزأر بعينيه مهدّدا وعندما يلوّح بكفّه غاضبا. تضحك عندما تراه يشد حاجبيه متعجبا، عندما يرفع جفنيه متفاجئا، عندما يُطبق على غريمه مباغِتا، عندما يعبث بشاربيه متسائلا. تضحك عندما تراه يضحك، وتضحك عندما تراه يبكي.

لم يترك شوشو عضلة من عضلات جسمه ولا جارحة من جوارحه إلا وأشركها في تأدية دوره، منتزعًا القهقهات والغُشيّات الضاحكة.

 

 

هل كان شوشو مبتكرًا؟

 

كلّ تعابير شوشو الفكاهية، كانت من ابتكاره. تلك التعابير لم تكن قليلة، فهي تكاد تؤلف لغة ابتكرها بنفسه. وقد بدأ تكوينَ تلك اللغة ومفرداتها منذ طفولته.

عند وصوله إلى حقل العمل المسرحيّ كان لا يزال يُغْني تلك اللغة بحركات جديدة وأصوات جديدة وانفعالات جديدة. اسألوا بشكل خاص الذين تابعوه في مسرحياته، في الخمس الأخيرة من حياته: 1970-1975.

 

 

من صَنَع شوشو، محمّد شامل أم حسن علاء الدين؟

 

يخطئ من يقول إن شخصية شوشو ابتكرها محمّد شامل. نعم، شامل فتح الطريق أمام "شوشو"، ورعى حسنًا واحتضنه ووجّهه وعلّمه الكثير. ولكن من المنصف أن نعترف لحسن علاء الدين بجهاده وقدراته الفنّيّة وأهليته وسعيه إلى النجاح.

 

وإذا كان شامل استمرّ في إسناد الأدوار إلى حسن في المسلسلات التي كان يعدّها، فذلك لأنّ حسنًا كان يثبت جدارته وكان يستقطب، يومًا بعد يوم، المزيد من النجاح ومن إعجاب المشاهدين.

 

أقولها بكلّ اقتناع: حسن علاء الدين هو الذي بنى "شوشو". أدعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى طفولة حسن التي فصّلتُ عنها سابقا ليجد السند والبرهان في ما أزعم. وعندما تعارف الرجلان، حوالي 1960، كان حسن علاء الدّين قد سبق وأمضى طفولته وفتوّته في بناء أسس شخصيته الفكاهيّة. ولم يكن صعبًا على النقّاد الذين شاهدوا "شوشو" في أوائل إطلالاته التلفزيونية أن يدركوا أنّ هذا الوجه الجديد لم يكن مبتدئا، بل كان يحمل خبرة إلى جانب موهبة متّقدة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

ثقافة 10/17/2025 6:10:00 AM
تُعدّ المقاهي الشعبية البيروتية مرآة دقيقة لتحوّلات المشهد الاجتماعي والثقافي للمدينة (1950–1970).
ثقافة 10/17/2025 6:15:00 AM
هذا المشروب الساحر لا يمكن تخيّله منفصلًا عن الشعور بالمشاركة وتحسين المزاج والحب.
ثقافة 10/17/2025 6:17:00 AM
المقهى.. أكثر من مجرد قهوة: تجربة حياة كاملة
ثقافة 10/17/2025 6:12:00 AM
كان الـ "هورس شو" في بناية المرّ قاطرة القافلة التي ضمت مقاهي الـ "إكسبرس" في بناية صباغ، و"مانهاتن" في بناية فرح، ثم مقاهي "نيغرسكو" و"ستراند" و"الدورادو" و"كافيه دو باري" و"مودكا" و"ويمبي" وغيرها.