كلمات

ثمّة لحظات لا تزال تلمع في السماء المُظلمة لبلد مُباح لكلّ نَهش. من تلك اللحظات، كان خبر وفاتك المرتقب، تلقيته عن قرب، وعن بعد أفرزته الظروف السيئة.
عشر سنوات مرت على آخر لقاء جمعنا، وعشرات اللقاءات التي سبقت وبلا مواعيد، كرحيلك. لقاءات كانت بمثابة هدايا تمتح في الأعياد.
الكلمات لا تنقل المعنى الدقيق للوجع، أنت العائد إلينا دائماً عبر ابتسامتك، المُرفرف فوق كيانك جناح الغفلة، أخفيت في داخلك جبالًا شاهقة من الوجع والعزلة، كما أخفيت يقظة دائمة وأَرَقًا موجعًا.
لم تحتملك الحياة لأنها صغيرة.
لأنك الغريب الذي تراءى له الشَّجَن، في أيامك الأخيرة، في كلّ شيء من حولك: الغيمة والشّجرة، الأواني المنزليّة والسّتائر، الشّرفات التي لا تفضي إلى شيء، وضوء النّهار، تلك العتمة الأخرى.
تبيّن لك الشّجن أيضًا، وفي المقام الأوّل، في الكائنات التي لا تعرف من يتحكّم بمفاتيح حياتها وموتها.
كان مارون غالب يطفح بالغياب، أمّا الرّحيل فهو مكان إقامته الوحيد. كان يرحل فيما يتألم ويعبّر ويتابع حلم شفائه من جديد، لذا كان يطلق وعود العودة كلما استطاع، لكن عودته كانت غائبة.
"توجد النهاية في البداية ومع ذلك نتابع الطّريق"، يقول صموئيل بيكيت. ثمّة قوّة تتجاوزنا وتدفعنا إلى متابعة الطّريق، لكن بعضنا يشبه العصافير الغريبة التي تترك السّرب المسافر وتذهب لترتطم في الجدران.
لقد رأى مارون ما يختبئ وراء القناع، وشعر بالغربة داخل الحلبة التي وجد نفسه فيها بالمصادفة، وقال: "المشقّة في قلبي لا في الطريق".
عرف أنّ الموت الذي يحوك قميصه في داخله هو ربّان السّفينة، وأنّ الحياة كلّها مجرّد تَنويع عليه. لذلك اختار أن يرحل بصمت، أن ينزوي في مكان بعيد، حتّى وهو مُحاط بالبشر وأهله والصداقات العابرة.
‎يقول: "سأعود كما كنت وألعن المرض".
‎تضجّ بالحرّيّة هذه الصّرخة التي تبدو جرحًا مستسلمًا طافيًا فوق الماء. الحرّيّة المُطلَقة! وهي تعبّر عن حاجة قائلها القصوى إلى التحرّر من كلّ شيء حتى ممّا يربطه بالحياة نفسها، الحياة التي لا تشبهه.
رحل مارون وما زال يرفرف بيننا. في قلب أمه وأخواته. في صدور من حبهم وأحبوه.
لم نلتقِ هنا، لكننا حتما سنفعل، هناك، حيث لا تأويلات ولا ضغائن.
وداعا مارون!