الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

استقلال ووطنيّة وكأس من الويسكي الرديء

تعبيرية (نبيل إسماعيل).
تعبيرية (نبيل إسماعيل).
A+ A-
كاتيا الطويل
 
أدرك أنّها أتعس الأوقات ليحتفل اللبنانيّ باستقلال لبنانه. "أوقات بنت كذا"، سيقول أيّ لبنانيّ رزين. من معه مال خسر ماله، ومن لا مال معه ازداد وضعه سوءًا. الأدوية غائبة، والمصارف غائبة، والمحروقات غائبة، والكهرباء غائبة، والمياه غائبة، والعملة الخضراء غائبة، والدولة... الدولة هي الغائبة الكبرى.
 
بيروت نفسها لم تعد تضحك، وكأنّها هي الأخرى وضّبت حقائبها ورحلت إلى مكان ما. لا عيد ميلاد فيروز سيرفع معنويّاتها، ولا إنجازات مكسيم شعيا ستحسّن حالتها، ولا حتّى برامج الترفيه ستستطيع شيئًا أمام أبواب الجحيم المشرّعة أمامها. أين تختبئ بيروت بفستانها المزركش من جحيم الحزن والفقر والهجرة؟ أين تختبئ بيروت من البحر الذي غدر بها؟
 
أدرك أنّ كثرًا منكم لن يفهموا نزعتي الرومنطيقيّة النوستالجيّة البودليريّة. إنّما يحقّ لي في هذا اليوم الذي كان مجيدًا في الأزمنة الغابرة، أن أُخرج وطنيّتي من جارور الخزانة وأن أشمّسها وأهوّيها وأتركها على سجيّتها تتمخطر في جنينة بيتي الخلفيّة التي زرعتها بصلاً ونعناعًا وبندورة كما نصحني الأحبّاء.
 
اليوم سأُخرِج وطنيّتي من جارور الخزانة وأجالسها وأحتسي معها كأسًا من الويسكي الرديء، لأنّ الأنواع الجيّدة باتت أغلى من قدرتي الشرائيّة. سأترك وطنيّتي تعبّر عن نفسها وسأصمت أمام عنجهيّتها وثورتها وعزّتها ولن "أبخعها". سأفرح بوطنيّتي اليوم، وسأراقصها الفالس، وسألقي برأسي في حضنها لتمسّد شعري. وطنيّتي لا تعرف أنّ الطبقة السياسيّة التهمت الأخضر واليابس في لبناني. وطنيّتي لا تعرف أنّ شعبي فاسد من أعلى الهرم حتّى أسفله والجميع يرمي باللائمة على غيره. وطنيّتي لا تعرف أنّ بيروت لم تعد تضحك. 
 
كيف أقول لوطنيّتي إنّ الطبيب في بلادي فاسد، والقاضي فاسد، والصيدليّ فاسد، والمدير فاسد، والفرّان فاسد، والمهندس فاسد؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّ الثورة التي جعلتني أحوّل بيتي الباريسيّ إلى خليّة سياسيّة، آلت إلى الكفن؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّني ما زلت أرتعش كلّما سمعت صوت باب يُغلق بقوّة وأشعر بغريزتي تدفعني لأختبئ تحت الطاولة عندما أسمع دويّ الرعد؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّني كلّما دخلتُ دكّانًا حاولت أن أجمع أسعار الأشياء في رأسي قبل أن أصل إلى الصندوق لأرى إن كان المال الذي في حوزتي يكفي؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّ بارات بيروت مهجورة والمطاعم فارغة والرجل الذي كان يلتقط صورنا في أمسيات السهر رحل إلى دبي ليلتقط صور أناس ما زالوا يضحكون هناك؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّ الشوارع معتمة والحليب مفقود والدولار بات يساوي 23 ألف ليرة لبنانيّة؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّ بيروت لم تعد تلاعب البحر ولم تعد مرفأ المتوسّط ولا سويسرا الشرق؟ كيف أقول لوطنيّتي إنّ بيروت لم تعد تضحك؟
 
أدرك أنّها أتعس الأوقات ليحتفل اللبنانيّ باستقلال لبنانه. "أوقات بنت كذا"، سيقول أيّ لبنانيّ رزين. وأدرك أنّ وطنيّتي لن تفهم الحزن في عينيّ والصمت في قلبي والقلق في رعشة أصابعي، لكنّني لن أقول لها شيئًا. سأترك وطنيّتي متنعّمة بجهلها، وربّما في العام المقبل، عندما أُخرِجها من جديد من جارور خزانتها الخشبيّة المنعزلة، سيكون لبناني قد عاد إليه استقلاله. ربّما في العام المقبل، عندما نجتمع أنا ووطنيّتي حول كأس من الويسكي الرديء قد نجد أنّ بيروت عادت تضحك لنا.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم