الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

أهذا حلمي عن لبنان؟

المصدر: النهار - ريمي وهبة - جامعة العلوم والآداب في لبنان
الأحد الخامس من شهر شباط السابعة والنصف مساءً شارع الحمرا
الأحد الخامس من شهر شباط السابعة والنصف مساءً شارع الحمرا
A+ A-
الأحد الخامس من شهر شباط
السابعة والنصف مساءً
شارع الحمرا
...أحسست بعد ما رأيت، بأن بيروت تبكي النّاس الأصيلة، تزفّ أولئك الذين كانوا لها جبالًا عتيدة هزموا أعداءها بروحٍ عنيدة، هل يصلحُ هذا خطابًا سياسيًا ينام فيه الشعب سباتَ ست سنوات دفعة واحدة؟ بدون خطاباتٍ لا يبصر الشعب ويعيد أخطاءه التي اقترفها مع من عبد الكرسيّ سابقًا، أتخيّل نفسي أمامه وأنا أخاطبه سأصير كما الكرسي. ولكنني شعرتُ وأنا أمشي بشيءٍ غريب، في ذلك المقهى شيءٌ يدفعني إلى الجنون.
أبصرتُ في يومٍ بعيدٍ جدًا ذات الصحيفة التي بعدَ مشادّة مطوّلة مع النادل لانشغاله، قام بتنظيف الطاولة ووضع جريدة لم يعد معظم اللّبنانيين يستخدمونها سوى لتلميع الزجاج.
وعلى هذه الصحيفة كان مدوّناً خبرٌ ليس كالأخبار القديمة، خبرٌ يقول بأنّ كاتبًا مجنونًا هرب من مستشفى للأمراض العقليّة يهلوسُ باسم مدينةٍ لم يُسمع عنها من قبلُ أيُّ لفظٍ ولم يُرَ لها حتى صورةً تذكاريّة.
وهذه المدينة تسمى "بيروت" حسب ادعاءاته هو من تلك البلاد الشاميّة التي لم تنعم بالسلام لا هي ولا شقيقاتها الأخريات.
وإذ بي اكتشف أن هذا الكاتب هو أنا، في الصورة رجلٌ يشبهني.
الساعة السابعة و 45 دقيقة
تعود الصورة فجأة وأعودُ إلى ذلك الكرسي، أوضّب أوراقي الملقاة على الطاولة وأعطي النادل بعضًا من البقشيش. ولكن هذا خيال الكاتب لا تؤاخذوه في هذه الأمسية قد فرش لهلوساته سجادةً ورقيّة فأصبح يصدّق تخيّلاته الإنسيّة.
وبصراحة السؤال بقي يخيفني عن وجودي وعن حقيقة أن بيروت مدينتي الأصليّة، أو أننا نحن الإثنين لسنا موجودين ونعيش فقط في خيالِ كاتبٍ هرب للتو من مستشفى للأمراض العقليّة!.
أهذا ما أتمناه أن أفنى ويفنى لبنان؟ أهذا حلمي عن لبنان؟ ما زلتُ على طاولة المقهى والعرقُ يتصبب منّي كأنّي سماءٌ والغيم يبكي عنّي. لا أستطيع التنفس كأن أحدًا وضع مخدّة على وجهي.
الساعة الثامنة مساءً
كان شارع الحمرا مختلفًا كلّ الاختلاف عن شارع الحمرا الذي أذكره، لم أجد أيُّ متسوّلٍ ولا حتى أيّ حاوية نفايات تتقيّأ أكياسها ولا أكياس خارجها.
أنظر الى ساعتي إنّها التاسعة صباحًا، لا علمَ لي كيف تغيّر الوقت من اللّيل الى الصباح؟ أهذه إشارة إلى أننا أُخرجنا من الظّلماتِ الى النور؟ هممت بالمشي تاركًا أغراضي على تلك الطاولة، ولكن بهجة التغيير أعطتني شعورًا بالهرب والتحليل المستمرين في آنٍ معًا. صوب محلّ الثياب البالية اختفت صورة الزعيم الذي جوّع سابقًا وقهر اللّبنانيين، كانت وجوه الناس مريحة وهادئة لدرجة الاستغراب. كم مرّ من دهورٍ لم نرَ هذا السلام في وجه اللّبناني؟
سألتُ أحد المارّة: "أخي أعتذر كم سعر صرف الدولار اليوم؟". متوجسًا أريد التأكد والاطمئنان. أجابني بسخرية: "إنه بألف و500 ليرة أخي، شكلك غريب عن هنا صحيح؟"، لم أردّ وعدتُ أدراجي إلى المقهى تاركًا ذلك الرجل خلفي يعانق ذهوله. ما إن تخطيتُ عتبة المقهى حتى وجدتُ ذلك الصبي على طاولتي، كان مع عائلته؛ أمٌ وأبٌ وثلاثة أخوة.
شعرتُ بدموعي تنهمر ووقفتُ أمامه بلهفة، نظر إليّ باستغرابٍ، حييته وحييت عائلته. ابتسمتُ له ابتسامة خرقاء وكأنّني أحاول إخباره أنه وأخيرًا يعيش طفولته ويرتدي ثيابًا تدفئه من لسعة البرد.
أنظر الى ساعتي إنّها التاسعة والنصف، لقد تأخرتُ على عملي. ولكن هل مازلتُ أمارس نفس العمل؟
فجأة طنين في أذنيّ، وبياضٌ ساطع.
كنتُ ساكنًا لا أعرف ماذا حصل لي، يقولون إنني أعاني من الهلاوس الآن أذكر. ذلك الدفتر الذي أحمله طلبت منّي طبيبتي أن أبقيه معي كي أتابع مسار حياتي عندما تصيبني هذه النوبات وأفقد ذاكرتي.
أنا: "كان شعورًا جميلًا، لم يكن هناك مشاكل ولا خوفٌ من الغد. هذه اللحظات القليلة التي كنتُ فيها هناك شعرتُ بالامتنان والروعة، أردت البقاء أكثر. لم أفهم لماذا فرحتُ هكذا عندما وجدتُ الصبي مع عائلته رغم أنني لم أحرّك ساكنًا لمساعدته قبل! حتى إنني بكيت، كان البلد رائعًا حتى الهواء كان منعشًا".
توقفت.
الطبيبة: "بماذا تشعر الآن"؟
أنا:"أريد أن أبكي".
الطبيبة: "وما الذي يمنعك"؟
أنا:" إيماني بالعالم المتوازي، وأننا نحن اللّبنانيين فرحون في عالمٍ آخر، حيث لا حزن ولا جوع ولا حرب ولا أولاد حرام يأكلون لحومنا كي يشبعوا بطونهم. أربعون سنة تخيلي عشتُ هذا الكم من السنين وللآن نحن كما نحن، وإلى الأسوأ".
الطبيبة: "ممم، لعلّه خير، هذا حال الجميع".
أكرهها عندما تقول هذا وكأنّ ما أشعر به عادي. هممتُ بالوقوف كي أرحل.
الطبيبة: "إلى أين"؟
أنا: "إلى حيث تأخذني هلوساتي، تعبتُ من لعب دور المريض. لعلّي أعقل الناس هنا".
الطبيبة: "يا ليتنا جميعاً لدينا ما لديك من هلاوس، الواقع ثقيلٌ على أمثالنا الأصحّاء".
أنا: "هل أنا مريض"؟
الطبيبة:" جميعنا، إلّا أنت. ولا عيب في ابتغاء غدٍ أفضل، العيب فينا نحنُ من اعتدنا حالنا".
الساعة العاشرة مساءً
على ذلك الكرسي في المقهى، أكتب ونسيت ما أكتب، لكن دموعي هطلت على تلك الورقة.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم