السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

تأملات في ولادة طفل في زمن قتل الأطفال في غزة

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
يسمّونه "طفل المغارة" لأنه وّلد في مغارة في بيت لحم، منذ ٢٠٢٣ سنة.

تقول الرواية الدينية، التي شكّك بصحّتها مؤرّخون مثل أرنست رينان، إن الملك هيرودس، وكان ملكاً على مقاطعة اليهودية في زمن ولادة يسوع، ومخافة أن يفقد عرشه، أَمَر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم، عندما علم بولادة المسيح. وكان هيرودس يبسط نفوذه على المنطقة الممتدة من هضبة الجولان شمالاً إلى البحر الميت جنوباً، وكانت أيام حكمه تمثل ازدهاراً ثقافياً واقتصادياً، كما كان حليفاً أميناً للإمبراطورية الرومانية.

تقول الأحداث اليوم، التي لا يُشكّك بصحّتها أحدٌ، حتى الإعلام الأميركي المنحاز لإسرائيل، إن الدولة الإسرائيلية، المزدهرة ثقافياً واقتصادياً، وحليفة الإمبراطورية الأميركية، تقتل معظم أطفال غزة قبيل ولادة يسوع. إسرائيل لا تقتل أطفال غزة لأنها تتوقع ولادة يسوع هناك وخوفاً على عرش اليهود، بل لأن هؤلاء الأطفال، وفق ما يدّعي إعلامها، هم "مشاريع إرهابيين"، يهدّدون أمنها في المستقبل. والحفاظ على أمن إسرائيل هو حجّتها، وحجة حلفائها الدوليين، لبقاء احتلالها لفلسطين.

التقطت مخيّلتي عفوياً قبيل الميلاد عناصر تشابه بين الحدثين، الإنجيلي والحالي، لكنني لا ادّعّي بالضرورة وجود رابط دينيّ أو سياسي بينهما.

***

في الوعي الجمعي، يُنظر إلى عيد الميلاد كمناسبة تعني الأطفال خاصّة، من حيث تسيّد بابا نويل المشهد الاحتفالي، فيما مهمته الأولى هي توزيع الهدايا عليهم.

الطفل هو نجم العيد، والعيد هو ذكرى ولادة طفل اسمه يسوع. أطفال العالم يحتفلون في العيد بولادة طفل مثلهم، وبهذا المعنى - تحديداً - هو عيدهم.

أطفال غزة محرومون من الاحتفال، من اللعب، من الفرح. لا شيء يفعلونه سوى الاختباء والارتجاف من الخوف بانتظار الموت. هم يموتون الواحد تلو الآخر، بمن فيهم الأطفال الرضّع الذين وُلدوا حديثاً، أو الذين توفّوا في أرحام أمّهاتهم، اللواتي قُتلن بالقصف الإسرائيلي، أو أجهضن بفعل العنف أو الخوف أو التهجير، أو بسبب النقص في الأجهزة الطبية اللازمة لإتمام الولادة.

لا يستطيع بابا نويل بثيابه الغريبة، وبالقناع على وجهه، التنقّل في إحياء غزة، فهو مشتبه فيه حكماً، وسيقتل على الفور؛ ولا منزل هناك أو زاوية ليضع فيها هداياه، فالخراب يحتلّ الأمكنة كافة.

في ذكرى ولادة طفل، أي طفل، نحتفل بولادة حياة جديدة، بولادة مستقبل. في ذكرى احتفال العالم بولادة الطفل يسوع اليوم، أطفال غزة يموتون لأنّه لا حق لهم في الحياة، ولأن العالم، الذي يحتفل، لا يعترف لهم بمستقبل.

البعض منا يحزن على كلّ طفل يُقتل، والبعض الآخر، للأسف، يُكابر ولا يحزن، طالما هو مطمئن إلى أن أرحام أمهات جماعته أو مذهبه أو دينه، وفق ما تُفيد إحصاءاته، تعدنا بالمزيد المزيد من الأطفال في المستقبل!

***

ليس سهلاً علينا النظر إلى يسوع كطفل، حتى في اللحظة التي وُلد فيها.

تقول الصلاة، المعروفة بـ"قانون الإيمان" أو بـ"نؤمن بإله واحد" إن يسوع المسيح "مولود غير مخلوق، نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وصار إنساناً".

بحسب الأناجيل، ولادة يسوع تشبه فيزيولوجياً ولادة أيّ طفل آخر، لكنّ الطفل يسوع هو من طبيعة مختلفة عن باقي الأطفال. إنه ابن الله وليس ابن البشر كسائر الأطفال.

يصعب علينا في هذه الحالة النظر إلى الطفل يسوع وكأنه يحمل مواصفات الطفل التي اعتدنا عليها.

لكن يسوع نفسه، عندما كبر، شاء أن يسهّل علينا المهمة. فبالنسبة له، الطفل هو المثال الأعلى؛ هو من يجب أن يتعلّم منه الكبار، وليس العكس. يقولها بوضوح: "عليكم أن تعودوا كالأطفال إذا أردتم دخول ملكوت السماوات". بمعنى آخر: الطفل، أيّ طفل، فيه روح الملكوت.

من خلال هذه المقاربة، يكاد يسوع يساوي بين ابن الله وابن البشر. ألم يبادر ويسمّي نفسه "ابن الإنسان"؟

السؤال الذي يلحّ عليّ، قبل ذكرى ولادة يسوع هذه السنة، هو كيف نلملم أشلاء أطفال غزة، حتى نستطيع أن نعود مثلهم كالأطفال، فندخل ملكوت السماوات؟
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم