الثلاثاء - 30 نيسان 2024

إعلان

مع فلسطين ضد "حماس"

حسين عبد الحسين
طفلة مصابة تنقل الى المستشفى في غزة. (أ.ف.ب)
طفلة مصابة تنقل الى المستشفى في غزة. (أ.ف.ب)
A+ A-

أثناء اندلاع حرب تموز 2006، ساجلت الرفيقين الياس خوري وزياد ماجد داخل حلقات "اليسار الديموقراطي" وعلى صفحات "النهار". كان حزبنا وتحالف 14 آذار الذي نشترك فيه يؤيدان إقامة دولة لبنان الديموقراطية ذات السيادة، وهو ما كان يتطلب حلّ ميليشيا "حزب الله" حسب اتفاق الطائف وقرار مجلس الأمن 1559. فجأة، اندلعت حرب تموز، وافترق عنّا الرفيقان الياس وزياد، وأعلنا تأييدهما للمقاومة في وجه ما أسمياها الحرب الإسرائيلية على لبنان، واعتبرا أن فعل المقاومة لا يجب أن يكون حصراً بطائفة أو مذهب، بل فعلاً وطنياً لبنانياً.



أما أنا وبعض الرفاق، فكان موقفنا أنه لا يمكن المناداة يوماً بتفكيك البنية التحتية العسكرية لـ "حزب الله"، والإصرار على حصر استخدام القوة العسكرية بالجيش اللبناني والقوى الأمنية المنضوية تحت لواء الحكومة المنتخبة، وفي اليوم الثاني إشاحة وجوهنا عن هذا المطلب وتأييد السلاح خارج الدولة فقط بسبب وجهة إطلاق النار، أي ضد إسرائيل.



يومها، كانت حجتي الأكبر أن موضوع السلاح مبدئي وليس سياسياً، وأننا إن وافقنا على استمرار وجود السلاح في أيدي أي منظمة لا تأتمر بأوامر الحكومة التي ينتخبها اللبنانيون، قد يخطر لهذه المنظمة أن تغيّر اتجاه إطلاق النار نحو الداخل بحجة أن أعداء الداخل يتآمرون لمناصرة أعداء الخارج، أي إسرائيل أو أميركا.



طبعا أنا لست نبياً، ولكن المنطق يقضي بأن السلاح في أيدي ميليشيات تعمل بإمرة نفسها يعطي هذه الميلشيات قوة تتفوق فيها على منافسيها، ثم على الدولة نفسها، وهكذا كان. اجتاحت ميليشيا "حزب الله" بيروت وجبل لبنان في 7 أيار 2008 ولقنت منافسيها درساً لم يستفيقوا منه حتى اليوم، وما زالت زعامة الجبل خجولة في تمايزها سياسياً عن "حزب الله"، وتقفز إلى الفرص التي تمكنها من إثبات أنها مع الحزب في نفس الخندق، وهكذا تجود في إدانة إسرائيل ومديح الفلسطينيين، ولكنها تصمت في معظم باقي تجاوزات "حزب الله" اللبنانية.



حتى بعدما اندلعت ثورة لبنانية عفوية شعبية في 17 تشرين الأول 2019، كان يكفي زعيم "حزب الله" حسن نصرالله أن يتهم زوراً، في خطاب علني، أن المتظاهرين هم من أتباع السفارات الغربية، وخصوصاً الأميركية، وأن مهمتهم طعن المقاومة من الداخل. لم يحتج "حزب الله" يومها للاستعانة بجيشه حتى "يطعمي قتلة" للثوار، الذين دأبوا على قطع الشوارع للفت الأنظار. اكتفى الحزب بارسال كتيبة المراهقين ممن يركبون الموتورسيكلات، وإحراق خيم البلد مراراً. انقطع الأمل، وهاجرت موجة جديدة من التغييريين.



مشكلتنا مع ميليشيات "حزب الله" وحماس الفلسطينية المسلحة هي مشكلة مبدئية لا سياسية. في السياسة، لا مانع إن عارض "حزب الله" و"حماس" إجماع "الجامعة العربية" بغالبية أعضائها الاثنين والعشرين على مدّ يد السلام لدولة إسرائيل وفق مبدأ "الأرض مقابل السلام"، أي إقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967 مقابل السلام مع إسرائيل وفق حدود 1948. وفي الأمم المتحدة عشرات القرارات التي تعزز هذا الإجماع العربي، بدءاً من قرار الجمعية العامة 181 لتقسيم فلسطين في العام 1947 وصولاً إلى قراري مجلس الأمن 1397 و1515 لتبني حل الدولتين في 2002 و2003.



المشكلة هي أن "حزب الله" و"حماس" يفرضان معارضتهما السلام وحل الدولتين بقوة السلاح، ويصرّان على أن السياسة الوحيدة المقبولة هي الكفاح المسلح لتحرير كامل التراب الفلسطيني من نهر الأردن إلى البحر المتوسط. كل من لا يتفق مع "حزب الله" و"حماس" على سياسة المواجهة العسكرية هذه هو عميل لإسرائيل، يتقاضى أجراً من السفارات الغربية لمعارضته الحرب ومطالبته بالسلام العربي مع إسرائيل والتطبيع معها.



حتى قبل 7 أيار، الذي تسلّم بموجبه "حزب الله" حكم لبنان بعد انحسار نفوذ عائلة الأسد، قامت حركة "حماس" في 2007 بقتل 450 فلسطينياً من حركة فتح والسلطة الفلسطينية، التي كانت تحكم قطاع غزة منذ انسحاب إسرائيل في العام 2005. بعد عامين من شبه الاستقلال الفلسطيني في غزة، تسلمت "حماس" الحكم، ففرضت إسرائيل حصاراً استمر حتى الحرب الدائرة اليوم.



لا أحد يتغاضى عن شقاء الفلسطينيين، ولكننا نختلف مع "حزب الله" و"حماس" على كيفية إنهاء هذا الشقاء. نحن نقول إن سعادة الشعوب هي في بناء دول عصرية حديثة شفّافة، وإن إجماع الدول العربية والمجتمع الدولي على حل الدولتين يمنح الفلسطينيين فرصة لإنهاء شقائهم واستعادة جزءٍ كبيرٍ من حقوقهم. ستعتبر غالبية الفلسطينيين أنها خسرت أراضيَ وذكريات مع قيام دولة إسرائيل، لكن الحي أبقى من الميت، وإقامة فلسطين على الأرض المتاحة أفضل من دوّامة الحصار والحرب والمجازر والمجازر المضادة.



طبعاً يكرر جماعة الحرب أن القرارات الدولية لم تؤدِّ الى قيام فلسطين، والرد هو أن الحرب لم تؤدِّ الى قيامها كذلك. وعلى عكس ما يتناقله البعض، لم يتوقف السلام بسبب تعنت الحكومة الإسرائيلية في التسعينيات، بل إن إصرار "حماس" على مواصلة الهجمات الانتحارية ضد الإسرائيليين، في خضمّ مفاوضات السلام، أظهر أن "منظمة التحرير الفلسطينية"، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني حسب الجامعة العربية والأمم المتحدة، لا تمثل الفلسطينيين ولا تتكلم باسمهم. هكذا عرقلت "حماس" مفاوضات السلام، ثم نسفتها بالكامل.



هناك صورة يقف فيها رئيس الولايات المتحدة السابق بيل كلينتون وزوجته هيلاري في غزة إلى جانب رئيس فلسطين الراحل ياسر عرفات وزوجته سهى أثناء حفل افتتاح مطار غزة الدولي في العام 1998 والذي أقفل أبوابه بعد ثلاث سنوات. كان العالم يسعى إلى إاقامة مرفأ في غزة ومنتجعات ساحلية للسياحة، كذلك كازينو في أريحا. تعثّر المجهود مع اندلاع الانتفاضة الثانية. ثم حاول العالم مجدداً بناء اقتصاد فلسطيني أثناء حكومة سلام فياض، مثل مشروع روابي في الضفة الغربية، وتحديث الإدارة، وبناء قوات الشرطة.



لم يتحول الحكم الذاتي الفلسطيني إلى سيادة، لكن حياة الفلسطينيين في ظلّه كانت أفضل بما لا يقاس من حياتهم مع الحصار في زمن "حماس"، وحروبها المتواصلة، وإصرارها على بيع الفلسطينيين أوهاماً حول الكرامة الوطنية و"المقاومة" التي تختبئ في الأحياء السكنية وخلف الناس، فيموت الناس فيما هي تحيا، أي أن الفلسطينيين هم من يحمون المقاومة المزعومة، بدلاً من أن تحميهم هذه المقاومة.



يجب ألّا نترك صوت المعارك يعلو فوق المهمة الأساس: بناء دول، في لبنان وفلسطين، دول تحت حكم القانون، بدلاً من دويلات ميليشيوية داخل دول متلاشية. إن نجحنا في بناء دول حديثة، فإن السيادة ستأتي وحدها.



نحن مع لبنان ضد "حزب الله" وحروبه، ومع فلسطين ضد "حماس" وحمّامات الدم التي أغرقت الفلسطينيين فيها.



* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم