الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

أوهام التغيير في لبنان لن تصنع ثورة

المصدر: "النهار"
العرض المدني في الاستقلال (أ ف ب).
العرض المدني في الاستقلال (أ ف ب).
A+ A-

طارق قبلان    

 

يودّع النقيب ملحم خلف نقابةَ المحامين في بيروت كما ودّع نقيب المهندسين جاد تابت نقابتَه من قبلُ، ولن نجدَ عظيمَ فرقٍ بين نقابةِ الأمسِ ونقابةِ اليوم. وستمرّ سنةٌ وراء سنةٍ، وعهدٌ خَلْفَ عهدٍ، ولن تُغيّر النوادي العلمانية شيئاً في الحياة الأكاديمية اللبنانية فضلاً عن السياسيّة... ولا تحاملَ البتّةَ، في الخلاصة الآنفة، على التغييريّين والتغيير.

...وبعد الثورة التشرينيّة ونقيبها، جاءت الدولةُ ونقيبُها، وانتُخب المحامي ناضر كاسبار بسلاسة على رأس نقابة بيروت، "كأنما لم يخرج في بيروت متظاهر"، وهو الحاضر منذ عقود في حياة النقابة، وليس في منأى عن القوى السياسية اللبنانية في عهودها المختلفة. كان ابن البيئة، ويدحض انتخابه القولَ إن النقيب أتى من رحم 17 تشرين أو سواها من حركات الاعتراض على المنظومة أو السلطة السياسية اللبنانية. إنّه ابن النظام!

وفي استرجاع لتجربة النقيب المنقضية ولايته ملحم خلف تحضر كلمتُه حول الحلم الآتي الذي لم يأتِ، ووعود الفاعلية التشريعية والوطنية، التي لم تنتهِ إلى شيءٍ مذكورٍ، غير ملمح شعريّ، بالرغم من أنّ كثيرين من "الثوار" زعموا وصلاً به، وعدّوه عنواناً حقوقيّاً للمستقبل اللبناني الجديد.
وفي نقابة المهندسين حديثٌ شبيهٌ، حيث أوصلت 17 تشرين النقيبَ جاد تابت، الذي خرج من النقابة وهو يشكو "التغييريين" قبل فاسدي المنظومة والتقليديين في الحياة النقابيّة والسياسيّة؛ والسبب ثقافة سياسية واجتماعية لبنانية بامتياز.

لم يتغيّر شيء!

أما النوادي العلمانيّة فلا ينقص من قدرها إن طالبناها بأن تثبت للناس أنّ وجودها في موقع التمثيل الطالبيّ قد منح الواقع الأكاديمي سمةً لم تكن موجودة من قبل. لا أعتقد أنّ بإمكانهم إثبات المُدَّعى، إذ لم يسمع الجمهورُ منهم غيرَ كلماتٍ متوتّرة في ختام الانتخابات الطالبيّة، وفي لقاءات العابرين، وكان الله يحبّ المحسنين.

هل فشلُ التغيير سببه الأشخاص المنتخَبين؟

من البداهة قول "لا"، فالناس هم الناس، يتشّكلون باختلاف الظروف والسياقات، فينجح الذي أعدّ العدّة للمهمّة الجليلة، ولم تُعاكسه مجريات الأحداث، ويفشل من أرخى الحبل على غاربه، أو ترك قياد الأمور إلى سواه، ممّن لا همَّ وطنيّاً لهم، ولا رغبة في تقدّم الوطن. وما أكثر ما امتدح اللبنانيّون رئيساً أو موظّفاً، لا لخبرة لهم بقدراته، ولا لدراية بخبايا عمله وأسراره، بل لأن "المنظومة" بحيتان مالها، ودهاقنة سياستها، وأبواق الدعاية الإعلامية ومرتزقتها، تلاعبوا بعقول العامة من الناس، وصاغوا لهم شخصيّات لا واقع لها، وأرغموهم على التصفيق لمن لا يليق به نيل ذلك. وكم فَضَحَ بعضُ المنظومة البعضَ الآخر حين استعر الخلاف بينهم، فبان هُزال الضخمِ الذي أرادوه، وكُشفت ضحالة عقل من قُدّم فذّاً عبقريّاً!

ثمّة من امتُدِح كثيراً لدوره الوطنيّ، وقراراته الكبيرة، وتوازن خياراته، وهو في واقع الأمر لم يكن إلا وصوليّاً متزلّفاً مرتشياً تابعاً، جاءته اللحظة الكبيرة فاهتبلها، وأبلى في خدمة الأجنبي بلاءً يُلائم نَهَمَه... لكن القراءة في ربوعنا قليلة، واستثمارها – إذا تمّ – في غير محلّه.

تسطيح مفهوم النضال وطفوليّة الناشطين

ليس النقد موجّهاً إلى أشخاص النقباء والنقابيّين والناشطين بل إلى الفهم النضاليّ الحديث الذي يختزل الفاعليّة في الشعارات، ويبسّط النظر إلى الواقع، ويتغاضى عن الإمكانيّات المادية والبشرية والسياسيّة التي تتأتّى للأحزاب السياسّية والقوى التقليديّة؛ ومثال ذلك الدعوة إلى حكومة من خارج المنظومة مع صلاحيات استثنائيّة، كأنّما القضية محاكاة للخلق الأول حين قال الله تعالى "فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"؛ أو كأنّما المجتمع السياسي تخلّى عن دوره، ويستنجد بمَن يقوم مقامه، ولم يجد غير أبناء 17 تشرين... نظرة سكونيّة!

سينتقد البعض التعويل على الآليّات الديمقراطية في إصلاح النظام أو تغييره، وسيرفض دعاوى النظام حول آليّاته الديمقراطيّة وإمكانيّة التغيير السلميّ. لا بأس. يمكن للجمهور اللبناني توسّل الثورة سبيلاً إلى التغيير، لكن بشروطها، لا بالرقص والنارجيلة! فلن يُعدم الجمهور وسيلةً لتحقيق مطالبه إلا أن يطلبَ مستحيلاً، أو يطلب الأمرَ في غير مظانّه، فمصيره ساعتئذٍ الخذلان والفشل.

رافعة التغيير السياسية والتنظيميّة المفتقدة

وسواء أكان التغييري شخصاً أم حزباً، فإن ما يحتاجه رافعةً شعبيةً وسياسيةً وتنظيمية تؤمّن وصوله إلى مستوى القرار لتدبير سياسة البلاد وإجراء التصحيح المقترح، وهذا لن يأتي بسحر ساحر!

أكثر الأحزاب اللبنانية الفاعلة اليوم، والتي تمتلك حضوراً وثقلاً في الشارع والحياة السياسية خاضت حروباً، وثبتَتْ على تمثيل طبقات وشرائح اجتماعية وجماعات...، وقدّمت الكثير من "التضحيات" في سبيل أهدافها، بغضّ النظر عن إخلاصها لتلك الأهداف من عدمه، ولا يمكن لاحقاً أن نطلب منها ببساطة، بل بسذاجة، أن تتخلّى عن "إنجازاتها" و"مكاسبها"! فشرعيتها وتمثيلها نابعان من دون شكّ من حاضنتها الشعبية ورافعتها، مهما شوّهت الممارسة من نُبل أهدافها في نظر أنصارها وأخصامها.

 

الإعلام أعجز مِن أن يربح المعركة

يظنّ كثيرون من مُسَيّري جمعيات الجيل الجديد الحاملة صّفة اجتماعية، وذات الأهداف السياسيّة، أن الإعلام وأساليب المدافعة والمناصرة والحديث في حقوق الإنسان والحريّات... قضايا يمكن أن تؤتي ثماراً سياسية، لكنّهم يضلّون... تتوارد إلى ذهني المقارنة بين إعلام الجمعيات وسلاح الطيران الإسرائيلي أو التحالف في الخليج، فكلاهما لم يستطيعا حسم المعارك جوّاً، بل كان النصر حليف القوى التي تملك الأرض وعناصرها الطبيعيّة. كذلك الإعلام، مهما استطاع الانتشار، وابتكار أساليب ماضية، والإضاءة على المحرّمات أو المسكوت عنه أو اللامفكّر فيه، أو أحسن استغلال المنغصّات على المنظومة، فلن يستطيع حسم "المعركة" لصالحه لأنّه يفتقد إلى الاستمرارية المرهونة للتمويل، ويفتقد إلى التراكم النضاليّ الحقيقيّ في سبيل الوصول إلى الأهداف، ويفتقر إلى أطر القيادة والتنسيق والتأطير والمدد اللوجستي. قد يشنّ هجمات انتقامية مؤذية ويواكب ثم يهمد...!

ثمّة أمر آخر يعتور إعلام جمعيّات الجيل الجديد ألا وهو اللغة الشاتمة، الانتقامية، المتشاوفة، الاستعلائية، الإلغائية، الانقساميّة.

فهذه اللغة، مهما كان مصدرها طيّباً، تتمظهر بطريقة سلبية. فمن عيّنات اللغة التشرينيّة اعتماد الشتم والسُباب وقذف أعراض الخصوم. يمكننا الاستشهاد بحالة رئيس التيار الوطني الحرّ مثالاً، إذ تطاولَ جمهورُ الجيل الجديد على أمّه، التي لم يؤثر عنها أيّ دور سياسي، ولم يكن لها من ذنب إلا دورها الأموميّ، فتغنّوا بذلك في منتدياتهم ووسائط تعبيرهم، بل صاغوا نظريات نضاليّة في فن الشتم والهتك ومفاعيله.

على مستوى آخر، يلجأ الإعلام التشرينيّ إلى "تعيير" الجمهور عامّة بأن الزعيم "دعوَسَه" و"ركب ظهره".... في تشفٍّ واضح، ولغة انتقاميّة تجاه جمهور كبير، في الوقت الذي كان كثيرٌ من صنّاع المحتوى المذكور في أحضان النافذين ضمن قوى المنظومة، خصوصاً إعلامها، ولم يغادروا بيوتهم الأبويّة إلا منذ قليل، وبطريق الاستقالة؛ فأيّ المبرّرات تبيح لهم المساس بمشاعر الناس؟
إنّها لغةٌ متشاوفة، تُنزّه أصحابها عمّا ارتكبوه من اندكاك في السياقات الرسميّة والشعبيّة التي كانت مهيمنة في البلاد، وعمّا صاغوه من خطابات التزلّف والخنوع للحاكم، وتريد اليوم أن تلقّننا سرديّة منحولة، تُعلن طهر هؤلاء وميلادهم الخلاصيّ!
وهي لغة استعلائيّة في رفضها مشاركة الطيف الاجتماعي والسياسي اللبناني برمّته، وتعتبر المنتفضين معلّمي البسطاء، الجهلة، الخطأة، معالمَ الديمقراطية، والحوكمة، والرشد السياسي، و....
وهي لغة انقساميّة مفاصِلةٌ في التشديد على الـ"هم" والـ"نحن" وما تستبطنه من انقسام مذهبيّ، دينيّ، سياسيّ، طبقيّ...
ويحضرني في السياق قول تلك المرأة في رثاء أخيها: "نحن نقرأ"، فوسمت الـ"هم"، من حيث تقصد أو تجهل، محيطَها وأهلَ بيئتها ومجتمعها بالجهل، وأرادت أن تمدح نفسها فهجت جمعاً ممن يفترض أن يناصرها في مصيبتها، ويواسيها في عزائها؛ وبدل أن ينحاز إلى عدالة قضيّتها إذ به ينقلب إلى حياد، إن لم نقل إلى صفّ الغريم.

وتتجلّى اللغة الإلغائية في نبذ الصّفة التمثيليّة لأي ّمكوّن أو قوّة عدا قوى الجيل الجديد التشريني، مهما كانت درجة الخلاف، بل قد تظهر هذه الميزة في الخلاف الكبير بين عناصر وتشكيلات الجيل الجديد أنفسهم في قيادة النشاطات أو تسمية ممثليهم...

 

لماذا انتصرت لغة السلطة؟

تؤكّد لغة السلطة انتصارها في كلّ محطّة لأسباب كثيرة: أبوية ناصحة، منطقية علمية، وأهمّها المحافظة على فاعليّة القوة لدى صاحبها. فهي تترك للمعترضين مجالاً مهمّاً للتعبير في مقابل خنقها القدرة التغييريّة، فتبدو المعارضة قويّة، وفي موقع الندّيّة للسلطة من دون أن تملك من حظوظ التغيير الكثير، ما يحفظ للسلطة قدرتها على ممارسة السلطة بوجه منافس يبدو فاعلاً.

وهي فوق ذلك أبوية تظهر اهتماماً ببعض القضايا الحيوية المعيشية لدى الجمهور من دون أن تتطرّق إلى أسس النظام أو القضايا الجوهرية في السياسة والاقتصاد... ما ينال رضى الجمهور الآني، وهو الذي ينوء بثقل معاناته اليومية.

وهي منطقية في تناولها لقضايا السّاعة بالرغم من الفشل العظيم، لأنها في مناقشة الأمور تبدو علميّة متوازنة غير متطرفة في خياراتها، ولا سياسيّة الأهداف. وذلك بخلاف خطاب شارع الجيل الجديد، الذي يزعم استعادة الفضاء العام بكلام منمّق، لا ينطبق على أرض. والشواهد على ذلك كثيرة، أهمها حيطان المباني في وسط المدينة حيث الشتائم وأسماء العورات تكلّل المساحات المستعادة.

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم