الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

أية إستراتيجيا لنواب 17 تشرين؟

المصدر: "النهار"
مشهد من عملية رفع الجدار الإسمنتيّ في محيط مجلس النواب (نبيل إسماعيل).
مشهد من عملية رفع الجدار الإسمنتيّ في محيط مجلس النواب (نبيل إسماعيل).
A+ A-
غسان صليبي
 
أكتب من موقع الإنتماء الى انتفاضة 17 تشرين، فقد شاركت في ساحاتها وفي مناقشاتها وأصدرت كتابًا في شأنها. وإذ أتقدّم بمقترحات من أجل إستراتيجيا لنواب 17 تشرين، فإنما أفعل ذلك من موقعي كمواطن يخاطب ممثليه على عتبة مباشرتهم عملهم.
 
أكتب بتأنٍّ وحذر شديدين كمن يتعامل مع طفل وليد بين يديه، فرِحًا به وخائفًا عليه في الآن نفسه.
 
مقترحاتي تندرج تحت أربعة عناوين: الأول "هوية نواب 17 تشرين"، الثاني "العلاقة بالسلطة"، الثالث "أولويات الإستراتيجيا"، والرابع "علاقة اللماذا بالكيف في الإستراتيجيا".
 
أولاً: هوية "نواب 17 تشرين"
 
لا أطلق عليهم تسمية "النواب التغييرين" رغم أنهم خاضوا الإنتخابات النيابية تحت هذه التسمية. ليس فقط بسبب غموض كلمة تغيير وافتقارها إلى مدلولات واضحة على المستويات السياسيّة والوطنيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة، بل لأن ما يجمعهم حتى الآن، هو ماضٍ أكثر منه مستقبلا.
 
ليس لديهم برنامج سياسي مشترك، عجزوا في الماضي عن الإتفاق عليه، وقد يعجزون في المستقبل، وآراؤهم مختلفة بالنسبة إلى كثير من القضايا. لكن يجمعهم ماضٍ مشترك، نضال مشترك، خاضوه تحت لواء إنتفاضة 17 تشرين. حتى ابان الإنتفاضة لم تكن لهؤلاء النواب رؤية مشتركة. لكنّك كنت تراهم معًا في الساحات وعلى المنابر. الساحات لم تكن واحدة، بل توزّعت على المناطق بما يشبه الدوائر الإنتخابيّة التي انتخب منها نواب "17 تشرين". مع هذه الإضافة الضروريّة، ان الذين أنتُخِبوا، كانوا معًا في كل الساحات وخاصةً في ساحة الحريّة في بيروت.
 
يبدو ان هؤلاء النواب يحتاجون الى جهد إضافي، لا بل الى إرادة، لاكتشاف ما جمعهم ابان الإنتفاضة، وصوغه. بمعنى آخر، عليهم إكتشاف هويّتهم وإن كانت لا تزال في طور التبلور.
 
ما يمكن تأكيده، انهم يرفضون الواقع القائم وينشدون تغييرًا على المستويات الوطنيّة والإقتصاديّة والسياسيّة والإجتماعيّة كافةً. يمكن التأكيد أيضًا ان هناك قطيعة "أخلاقيّة" مع ما يسمّونه بــ"المنظومة الحاكمة" أو بــ"كلّن يعني كلّن". تترافق هذه القطيعة الأخلاقيّة مع "نَفَس وطني" مستقلّ يتجاوز الإنقسامات المذهبيّة والطائفيّة، وحتى الطبقيّة، قد تُرجِم برفع العلم اللبناني وحده وإنشاد الأغاني الوطنيّة. ويترافق هذا "الَنفَس الوطني" مع المناداة بدولة مستقلّة ديموقراطيّة وعادلة. لعلّنا كنّا أمام "حركة وطنيّة" أكثر ممّا كنّا أمام "حركة سياسيّة" بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لا سيما في ظرف تزايد النفوذ الإيراني عبر "حزب الله"، وتفاقم تأثيرات التجاذبات الإقليميّة الدوليّة المعلنة، على ديمومة الكيان نفسه. ربما هذا ما يفسِّر جزءًا من العجز عن الإتفاق على برنامج سياسي في ظل قصور ملازم عن بلورة معنى "وطني" للنضال.
 
 
ثانيًا: العلاقة بالسلطة
 
مع دخول ممثلين لــ 17 تشرين الى المجلس النيابي بصفتهم نوّابًا، تسقط تلقائيًّا توجّهات اعتمدتها قوى 17 تشرين في السابق، مما يتطلّب انتاج توجّهات أخرى.
 
- ممثلو 17 تشرين أصبحوا يشاركون في السلطة التشريعيّة ولم يعودوا منتفضين على السلطة، وهم ينتمون اليوم الى المجلس النيابي الذي يضم ممثلين عن "كلّن يعني كلّن".
 
- مع الإنخراط في عمل المؤسسات الدستوريّة، أصبح الخلط بين مسبّبات الأزمة والمسؤوليّة الدستوريّة عن حلّها، مضرًّا وعائقًا أمام المعالجات. فالمسبّبات متعدّدة ومزمنة: إقتصاديّة، سياسيّة، ماليّة، إداريّة. ومسبّبو الأزمة متعدّدون: "المنظومة"، مصرف لبنان، المصارف، إضافة الى أطراف خارجيّين إقليميّين ودوليّين. أمّا المسؤوليّة الدستوريّة عن معالجة الأزمة فيحدّدها الدستور (حكومة، وزراء، مجلس نيابي، رئيس جمهوريّة، إدارات الخ). الحلول تأخذ في الإعتبار "المسبّبات"، لكن المساءلة أو الضغط فيوجّهان الى المسؤول عن حل الازمة وليس الى مسبّباتها. لا فائدة هنا من ترداد شعار "كلّن يعني كلّن"، إلاّ في حال الحاجة الى التعبير عن العجز عن المواجه الدستوريّة، أو في حال الرغبة في الإنكفاء عن التأثير. فالعمل التشريعي سيتطلّب حكمًا التنسيق لا بل التعاون مع بعض "كلّن يعني كلّن" إذا كان نواب 17 تشرين يريدون إنجاز إصلاحات عبر التشريع.
 
يختلف الأمر بالنسبة إلى العلاقة مع السلطة التنفيذية، أي الحكومة ورئاسة الجمهورية. على هذا المستوى مطلب 17 تشرين لا يزال صالحًا وأكثر مشروعيّة: ضرورة قيام سلطة مستقلّة ذات صلاحية استثنائية لمعالجة الازمة.
 
السؤال العملي المطروح على نواب 17 تشرين هو الآتي: هل يشاركون أو لا يشاركون في الحكومة المقبلة؟ أنصحهم بألا يفعلوا لعدد من الأسباب أهمّها إثنان:
- لا إمكان في ظل موازين القوى الحالية لقيام حكومة مستقلة بقيادتهم أو لقيام حكومة يشكّلون هم أكثرية أعضائها. حتى لو كان رئيسها منهم، هذا لن يغيّر كثيرًا في مسار الأمور.
 
- قوّة تيار 17 تشرين في حركة تصاعديّة في حين ان قوّة "المنظومة" في حركة انحدارية. يجب البناء على هذا المسار العام وصولاً إلى تحقيق هدف قيام سلطة مستقلة، بدل إعاقة تحقيق هذا الهدف من خلال تحالفات مرحلية غير موثوق بها وغير مضمونة. هذا لا يمنع ويجب الاّ يمنع نسج تحالفات على ضوء ممارسات وليس أقوال الكتل الأخرى في إطار "المعارضة البرلمانيّة". على ان تجري هذه التحالفات في سياق اقتناع ان التطورات المستقبليّة هي لصالح ازدياد شعبية نواب 17 تشرين وتراجع شعبية الكتل الأخرى.
 

ثالثًأ: أولويات الاستراتيجيا
 
لا يملك نواب 17 تشرين ترف اختيار أولويات علمهم بهدوء وعلى مهل. ففي ما يشبه "الثورة المضادة" التي واجهتهم بعد 17 تشرين مباشرة من طريق ارتفاع سعر الصرف وتهريب الأموال من المصارف وارتفاع أسعار السلع الضرورية، ها هي الأزمة المعيشية تتفاقم بسرعة غداة الإعلان عن النتائج النيابيّة وفوز عدد كبير من النواب "التغييرين والمستقلين" فضلاً عن إنتقال الأكثريّة النيابيّة الى مجموعة من الكتل المعارضة. وقد ترافق ذلك ايضًا مع مسارعة حكومة السلطة التي أجرت الإنتخابات الى إقرار خطّة التعافي المالي، طارحةً المسألة كبند أساسي على جدول أعمال الكتل النيابيّة في القريب العاجل.
 
لا يحتاج بالطبع نواب 17 تشرين الى كل هذه التطورات المتسارعة لإعطاء الأهمية القصوى للوضع الإقتصادي والمعيشي. فمنذ 2019 وهم يطالبون بمعالجات ملحّة وكانت لهم مشاريع ولو متنوعة في هذا الخصوص. لكن المسؤوليّة أصبحت اليوم بين أيديهم فهم معنيون بإيجاد المعالجات الناجعة والملحة.
 
يستطيع نواب 17 تشرين أن ينجزوا مشاريعهم ويبلوروا مواقفهم حول الازمة الإقتصادية والمالية، وعليهم ان يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن، ولا سيما في شأن أربع مسائل أساسية مترابطة: خطة التعافي، الكابيتال كونترول، موازنة 2022 وسعر الصرف. لكن مع التعقيدات السياسية المعروفة والتي أضيفت اليها تعقيدات جديدة بعد الإنتخابات، من المرجّح ان يأخذ بت هذه المسائل وقتًا طويلاً قد يمتد الى نهاية السنة الحالية.
 
لذا اقترح على نواب 17 أيار ان يبادروا الى طرح "مشاريع حماية" لمعيشة المواطنين التي تتعرّض كل يوم للمزيد من التفاقم، إستباقًا لإقرار السياسات الإقتصادية والمالية الكبرى.
 
هناك في ادراج وزارة العمل ثلاثة مشاريع ذات اهميّة قصوى بالنسبة إلى معيشة المواطنين: مشروع حول شبكة للحماية الإجتماعيّة، مشروع حول ضمان الشيخوخة ومشروع حول تعويض البطالة. المشاريع الثلاثة استفادت من دراسات اكتوارية ساهمت بها منظمة العمل الدولية، وبعضها جرت صياغته بشكل مشاريع قوانين. كما ان هذه المشاريع طُرحَت للنقاش في إطار حوار إجتماعي ولو متقطّع وغير جدّي، بين الدولة وأصحاب العمل والعمّال، وحتى اليوم لم يجرِ التوافق على أيٍّ منها.
 
من مسؤوليّة نواب 17 تشرين وعددهم يفوق العشرة نواب- مما يتوافق مع الشرط الدستوري لطرح المشاريع- ان يطلعوا على هذه المشاريع، ان يعدلوها إذا لزم الأمر، وأن يطرحوها لمناقشتها وإقرارها في المجلس النيابي.
 
هناك أولويات أخرى وإن لم تكن اكثر إلحاحًا، لكنها ذات تأثير بنيوي حاسم على مسار الوضع اللبناني بشكل عام، بما فيها الازمة المعيشية. أبرز هذه الأولويات مسألة سلاح "حزب الله" و"الاستراتيجيا الدفاعيّة" التي طال الحديث عنها لكن بدون طرحها بشكل جدّي. هنا أيضًا من مسؤوليّة نواب 17 تشرين إعداد الاطروحات اللازمة في هذا الشأن وفرض بتها بأسرع وقت ممكن، وبالطرق الدستورية. وهذا يحيلنا على العنوان الرابع والأخير، وربما الأهم والمتعلق بأية استراتيجيا، والمتعلق بكيفية تحقيق ما سيطالب به نواب 17 تشرين.
 
 
رابعًا: كيف يحقّق نواب 17 تشرين مقترحاتهم؟
 
بالنسبة إلى النواب بشكل عام وفي نظام ديموقراطي برلماني، الآليات الدستورية هي التي ترسم خريطة طريق تحقيق المقترحات. وهذا ينطبق على نواب 17 تشرين مع بعض الفروقات.
 
فلنؤكّد أولاً ان التمسّك بالآليات الدستورية لا ينبع فقط من الحرص على اعتماد الطرق الدستورية في التغيير المنشود، بل أيضًا من اقتناع بأن اعتماد هذه الطرق هو بحد ذاته في صلب عملية إعادة بناء الدولة القائمة على عمل المؤسسات الدستورية وعلى فصل السلطات بينها.
 
ولنؤكّد ثانيًا ان التمسّك بالدستور وآلياته، هو بحد ذاته سلوك معارض لـ"المنظومة" التي انتهكت الدستور وتستعد لانتهاكه في المستقبل.
 
ولنؤكّد ثالثًا ان التمسّك بالدستور لا يعني الحفاظ على ما هو قائم، بل البناء عليه لتطوير ما يجب تطويره، لا سيما ان هذا الدستور يعترف بالاعلان العالمي لحقوق الانسان وبالحريات المدنية، وينص على آلية لتجاوز النظام الطائفي كما على ضرورة تطبيق اللامركزية الادارية، وجميعها تصب في مصلحة بناء دولة المواطنية التي تحمي حقوق المواطن. وهذا ما يتفق عليه من حيث المبدأ نواب 17 تشرين.
 
لكن تطبيق الدستور واستخدام الآليات الدستورية لإحداث الإصلاحات المطلوبة، لن يكون بالأمر الهيّن على الإطلاق. بل قد يصبح مطلب تطبيق الدستور هو الأولوية على أجندة نواب 17 تشرين: أي الدفاع عن الآليات الدستورية للتغيير وتثبيتها قبل القدرة على طرح مشاريع التغيير نفسها.
 
في هذا السياق، اقترح اعتماد مقاربتين إضافيتين مساندتين على طريق تحقيق مشاريع نواب 17 تشرين:
 
الأولى، هي تسمية القوى التي تنتهك الدستور ومناهضتها كجزء لا يتجزأ من الصراع على تحقيق المشاريع.
 
الثانية، هي اللجوء الى الوسائل الديموقراطية الأخرى التي كفلها الدستور، والتي تساعد على احداث الاصلاحات المطلوبة، ومن بينها ضغط مناصري 17 تشرين في الشارع. وهنا أيضًا يجب تسمية القوى التي يمكن ان تلجأ الى قمع التحركات في الشارع، ومناهضتها سياسيًّا، وعدم تكرار أخطاء إنتفاضة 17 تشرين التي تقاعست عن القيام بذلك ولجمت تطوّرها النضالي بسبب ذلك.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم