الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عن لبنان الزمن الجميل

المصدر: "النهار"
عائلة الرئيس كميل شمعون (أرشيفية).
عائلة الرئيس كميل شمعون (أرشيفية).
A+ A-
الدكتور إيلي حداد
 
استرعى انتباهي في إحدى الحلقات الحوارية مع أحد صحافيي محور الممانعة منذ أيام انتقاده اللاذع لما يسمّى وما يروّج له عبر قنوات التواصل الاجتماعي بمصطلح "لبنان الزمن الجميل". كان هجومه اللاذع رداّ على المقارنة بين الوضع الحالي البائس والمفلس وبين الصورة النوستالجية للبنان أيام كميل شمعون وفؤاد شهاب وحتى شارل حلو.
 
بالطبع لا ينكر أحد أن زمن التأسيس ذلك لم يكن "جميلاً" للجميع، فكان العديد من الناس يقعون ضمن طبقة إجتماعية لم تشملها سهرات السان جورج ولا حفلات بعلبك ولا رحلات التزلج الى الأرز، وكان المنتمون الى هذه الطبقة غير المحظية يعانون من "زمن جميل" استثناهم من المشاركة فيه. لكن ما فات الصحافي الممانع أن "لبنان الزمن الجميل" كان يضمّ أكثرية تنتمي الى الطبقة الوسطى، وهي المحرك الأساسي لحركة التطور والارتقاء الاجتماعي، كما أنها تشكل صلة وصل بين طبقة الميسورين المتمتعة كلياً بالزمن الجميل وبين طبقة الكادحين. وكانت هذه الطبقة الوسطى، التي ترمز اليها سيارة البيجو 404 التي كانت تعج بها الطرق، تتمتع أيضاً وإن بنسبة أقل، بفوائد الزمن الجميل، من ارتياد المسارح وصالات السينما الى التمتع بالشواطئ في فصل الصيف الى بعض النشاطات في فصل الشتاء. لكن الأهم أن أبناء هذه الطبقة كان لهم الأمل بالارتقاء والتطوّر الاجتماعي عبر ارتيادهم مدارس خاصة ذات مستوى تعليمي عالٍ. كانت سلسلة المدارس الخاصة هذه تعطي أبناء الطبقة الوسطى الأمل في صعود السلم الاجتماعي ومنهم من أصبح من الاطباء والمهندسين اللامعين في لبنان والخارج، وهذا أيضاً ركن أساسي من أركان "الزمن الجميل" الذي يتم تدميره الآن.
 
بالطبع إن الهبوط الدراماتيكي الذي وصلنا اليه، يدفع بالعديد الى استلهام الماضي والعودة اليه بطريقة انتقائية دون النظر أو التوقف عند بعض شوائبه وأخطائه. فالنوستالجيا هي بصيص الأمل الوحيد المتبقي عند اندثار أي أمل بالحاضر أو المستقبل، وهذا من نتيجة السيطرة المافيوية على السلطة من قبل طبقة سياسية، بعضها كان ينتمي الى طبقة الكادحين فأضحى بعد الحرب في نادي أصحاب الملايين، لكنه بالطبع لا يمكنه أن يمدح بزمن كان هو فيه منبوذاً في مجتمعه. الصحافي اللاذع انتقد "الزمن الجميل" وكل ما يرمز اليه، مفضلاً زمن الانتصارات والمقاومة، وإن كان هذا الزمن قد أدى بالعديد الى الحضيض، فاندثرت معه الطبقة الوسطى وأصبحت غالبية الشعب تقع ضمن الطبقة المعدومة الواقعة تحت رحمة الاحزاب والمساعدات الاجتماعية.
 
انتقاد "الزمن الجميل" لا يمكن فصله عن المنحى السياسي لذلك الزمن ورمزيه الأساسيين: كميل شمعون وفؤاد شهاب. الأول كان "فتى العروبة الأغر" والرئيس الذي ثبّت انفتاح لبنان على العالم العربي والغربي، وقبل كل شيء كان الرجل المتألق مع زوجته الأنيقة الذي في أيامه وضع الحجر الأساس للصروح التعليمية والثقافية والرياضية. أما الثاني فهو رجل المؤسسات من الطراز الأول، والناسك في السياسة الذي شكل مثالاً صعب تكراره، والذي ادعى ثلاثة من قادة الجيش بعده (وبعد الحرب العبثية) أنهم يحملون لواءه، وأنهم، بوصولهم الى سدة الرئاسة، سيسعون الى إعادة إحياء "نهجه" أي نهج بناء دولة القانون والمؤسسات، إلا أن احداً منهم لم ينجح في هذه المهمة، ليس فقط بسبب الظروف الداخلية والخارجية وإنما أيضاً بسبب نقص في الجوهر.
 
نعم، لبنان الزمن الجميل كان جميلاً، بطبيعته التي لم تكن قد اغتصبتها بعد قوى الأمر الواقع وطبقة من حديثي النعمة وأغنياء الحرب ومن "المطوّرين" الانتفاعيين الذين قضوا على الجبال والوديان من أجل الربح السريع. لبنان الزمن الجميل لم يكن لبنان الصفقات المفضوحة التي شوّهت مناطق بأكملها، واعدة بمشاريع تنموية حيوية لم تأتِ بأيٍّ من ثمارها. لبنان الزمن الجميل كان وطناً حديث التأسيس يحاول جاهداً، قبل أن تأتي العواصف الإقليمية، أن يضع أسس حياة سياسية متنوعة وديموقراطية، لا تحتكرها مجموعات مافيوية في كل طائفة، منشئة "غيتوات" فعلية، أحادية أو ثنائية، يستعصي اختراقها. لبنان الزمن الجميل كان لبنان المؤسسات التي أوصلت الكهرباء الى القرى النائية، وأنشأت المدارس الرسمية والمستشفيات على كامل الأراضي اللبنانية والجامعة اللبنانية والمرافئ البحرية والجوية وغيرها من المنشآت الحيوية. لبنان الزمن الجميل كان يضمّ سياسيين أصحاب فكر من أمثال ريمون إده وكمال جنبلاط وشارل مالك وغسان تويني وإدوار حنين وغيرهم. لبنان الزمن الجميل لم يكن محكوماً من عصابات مافيوية امتهنت تهريب المخدرات وبيع السلاح وإبرام الصفقات المشبوهة، مدّعية في الوقت ذاته النزاهة والنسك السياسي. لبنان الزمن الجميل كان يسمح لطفل من الطبقة الوسطى بأن يأمل يوماً ما بالوصول الى تحقيق أحلامه دون وساطة من أحد.
أما اليوم فما عسانا نقول؟!
 
تذكرت، وأنا أفكر في الوضع الحالي الذي وصلنا اليه، أحد الأفلام الوثائقية التي شاهدتها أخيراً على قناة Histoire الفرنسية، وفيها تحليل توثيقي لآخر أيام اريك هونيكر وجمهورية ألمانيا الديموقراطية (الملحقة بالمعسكر الاشتراكي). أشار المحللون عن هذه الحقبة التاريخية إلى أن المشكلة الأساسية كانت تكمن في انقطاع الطبقة الحاكمة عن الشعب وتجاهلها أو عدم وعيها لمشاكله وهمومه وآماله. كانت السلطة، كما الحال عندنا اليوم، في حالة غيبوبة وكأنها تعيش في عالم آخر. لم تأتِ التحركات الشعبية كنتيجة لجهود منظمة وخطة مرسومة وإنما أتت كرد فعل عفوي مع اقتراب الاحتفال السنوي بالعيد الاربعين لتأسيس الجمهورية الديموقراطية الألمانية. وقد واكب هذا الحدث صعود ميخائيل غورباتشيف الى الحكم في الاتحاد السوفياتي وشروعه في سلسلة من السياسات الانفتاحية بهدف تحرير الاقتصاد وإعطاء نفحة جديدة للحكم المتجمد في كل أنحاء الاتحاد السوفياتي.
 
في هذه الفترة، تصادعت وتيرة الهجرة من ألمانيا الاشتراكية، من خلال الهروب عبر بلدان أخرى مثل تشيكوسلوفاكيا أو عبر الحدود مع ألمانيا الاتحادية. لكن البعض قرر البقاء وتحدّي سلطة الأمر الواقع. التحركات الشعبية التي أطاحت النظام الشيوعي بدأت قبل شهر من سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989. بدأت أولى التظاهرات ضد النظام في مدينة بلاون في جنوب درسدن، وهي إحدى المدن الصناعية في البلاد. وفي 7 تشرين الأول كان هونيكر يقيم احتفالاً كبيراً بذكرى تأسيس الجمهورية الاربعين في قصر المؤتمرات الحديث في العاصمة برلين، في حضور غورباتشيف والعديد من رؤساء الدول الاشتراكية. كان الحاضرون في الحفل يتمتعون بالسهرة والعشاء الفاخر الى أن بدأ يتصاعد صوت المتظاهرين في الخارج الذين تحلقوا بطريقة عفوية، مرددين شعارات: حرية، ديموقراطية... حان وقت أن يلقي الرئيس هونيكر، العجوز والمتهالك صحياً، كلمته، فوقف واختصرها ببعض التمنيات متجاهلاً النص الذي كان معدّاً، وذلك بتأثير واضح من الوضع المستجد في الخارج. أدرك هونيكر، ولو متأخراً، أن زمنه قد ولّى وأنه من الأفضل عدم ترداد شعارات فارغة أوصلت البلاد الى شبه الانهيار والى تململ شعبي جارف. فاكتفى بكلمة موجزة، قام غورباتشيف بعدها بمغادرة الحفل قبل انتهائه مع مجموعة أخرى من المدعوين.
 
يسرد أحد الحاضرين الذين كانوا من المسؤولين في النظام الحاكم، كيف تابع البعض سهرتهم وهم يرقصون أزواجاً على أنغام الموسيقى متجاهلين التحركات الشعبية في الخارج، فيما جلس هونيكر وحيداً إلى الطاولة الرئيسية، شارداً في أفكاره وكأنه أصبح في عالم آخر. كم تبدو هذه الصورة مشابهة لواقعنا الحالي حيث يتابع المتسلطون رقصاتهم السياسية متجاهلين أنين الشعب ومآسيه. لكن بالرغم من أن الضوابط الطائفية لا تزال تحمي النظام المهترئ القائم، إلا أن الانهيار الآتي لا بد أن يوصلنا الى نقطة العبور من دولة المزرعة الى وطن يعيدنا من جديد الى "الزمن الجميل".
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم