الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

الاعتداء على عبير موسي طعن للديمقراطية... وإهانة للمرأة التونسية

رئيسة الحزب الدستوري الحرّ النائبة عبير موسي (أ ف ب).
رئيسة الحزب الدستوري الحرّ النائبة عبير موسي (أ ف ب).
A+ A-
مهى سمارة
 
الاعتداءُ الذي تعرّضت له رئيسة الحزب الدستوري الحرّ النائبة عبير موسي على يد زميلها النائب صبحي صهارة طَعَنَ الديمقراطية التونسية في الصميم، والحياةَ البرلمانيةَ التعددية في عقر دارها، كما شوّه، وأهان صورة المرأة التونسية، التي تُعتبر نموذجاً لتحرير المرأة المسلمة والاعتراف المبكر بحقوقها السياسية والقانونية.
 
لم يكن الاعتداء صدفة، إذ هي المرة الثانية التي يتطاول فيها رجلٌ على صفع زميلته وركلها؛ الأمرالذي حرّك النوّاب الذين هبّوا للدفاع عنها، وللدفاع عن حريّة النائب في التعبير، وعن كرامة المرأة التي تشكّل نصف المجتمع التونسيّ وأكثر.
 
قبل شهور عدّة، تجاسر نائبٌ آخر هو سيف الدين مخلوف، حليف راشد الغنوشي من كتلة الكرامة، وأخذ هاتف عبير موسي بالقوة من يدها خوفاً من التقاط صور الشّجار وتبادل الكلام المبتذل بين نواب الأمّة...
 
هذا التصرّف غير المقبول وغير المسبوق لم يكن ليحدث لو لم يكن رئيس حركة النهضة الداعية الإسلامي راشد الغنوشي رئيساً للبرلمان المتّهم بالتواطؤ مع المعتدين، وهو الذي يرهن البرلمان لمنطق القوة وتكريس الغلبة. الغنوشي متّهم بالسعي إلى تغيير وجه تونس وقوانينها بما يتلائم مع أجندة وأفكار الإخوان المسلمين، الذين يحاولون السيطرة على أجهزة القضاء والأمن ومؤسسات الدولة ورئاسة الجمهورية.
 
عندما انطلقت ثورة الياسمين في يناير 2011، اعتقدنا خطأً أن ترياق الربيع العربيّ سيطلّ من تونس الخضراء؛ ذلك المنتجع الجميل والراقي الذي طرد زين الدين بن علي من دون إراقة دماء، عبر تظاهرات واحتجاجات سلميّة عمّت الشارع التونسي.
 
عرفت تونس بالمجتمع المنفتح حيث تتمتّع النساء بكامل حقوقهن المدنيّة والشخصيّة. منذ سبعين سنة، منح الرئيس الراحل الحبيب بو رقيبة النساء كامل حقوقهن في الإرث والزواج والعمل والسفر... ما يجري الآن من فوضى وأزمات وانقسامات سياسية واقتصادية حادّة تجعل بو رقيبة يتلوّى في قبره. ترتفع الأصوات داخل البرلمان وخارجه تطالب بتثبيت الثوابت والقوانين و الديمقراطية، التي أرساها بو رقيبة، وتجاهلها بن علي، ويحاول الغنوشي تغييرها والقضاء عليها.
 
تونس عُرفت بحريّة التعبير والتعدّدية الحزبيّة والممارسة الديمقراطيّة بوجود أحزاب سياسية متجذّرة ونقابات عماليّة تاريخية، لا سيما الاتحاد العام التونسي للشغل وجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والحقوقيين وحركات نسائية رفيعة المستوى، أكسبت تونس موقعاً متقدّماً ومميزاً في شمال إفريقيا والعالم العربي.
 
تمكّنت حركة النهضة من أن تصبح رقماً مهمّاً في الحياة السياسية التونسية بعد ثورة يناير 2011. انخرطت عبرالمشاركة مع حزب نداء تونس، الذي كان يرأسه الباجي قائد السبسي خليفة زين العابدين ورفيق بو رقيبة في النضال والحكم، فقدّمت (النهضة تعتبر فصلاً من الإخوان المسلمين) تنازلات مقابل المشاركة السياسية، وانتهجت سياسة واقعية براغماتية تقوم على المصالحة مع الحداثة مبديةً مرونةً في فهم الواقع السياسي التونسي.
 
هذا الانفتاح على الأحزاب الأخرى كلّفها فتوراً مع قواعدها الشعبية، وهو ما ظهرت نتائجه المخيّبة في انتخابات 2014 و 2019. شهدت مسيرة النهضة تقلّبات في التحالفات، وتغييرات في الأجندات، عندما تبنّت وفضّلت المنطق السياسيّ على الأخلاقي، ممّا سبّب تصدّعاً في صفوفها.
 
قبل انتخابات 2014 تمسّكت باستحالة التعامل مع حزب نداء تونس، ثمّ انخرطت معه في ما سُمّي التوافق وحكم البلاد. في 2019 وعدت النهضة بعدم التعامل مع حزب قلب تونس، واتّهمت رئيسه بالفساد. بعد الانتخابات، عندما عجزت عن تحقيق عدد كافٍ من النواب، وضعت يدها مع قلب تونس، ممّا مكّن رئيسها الغنوشي من أن يصبح رئيساً للمجلس النيابي.
 
تأسّست حركة النهضة في العام 1981 على يد شيخين مفكّرين هما عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي. مورو يؤيّد الفصل بين الدعويّ والسياسيّ بينما الغنوشي منغمس في العمل السياسي، ولا ينفكّ عن انتقاد الأحزاب ورئاسة الجمهورية. ويرى أحد المنظّرين التونسيين أنّ المشكلة "تكمن في تونسة النهضة أم أخونة تونس"؛ وهو خيار صعب تحاول الحركة الهروب إلى الأمام من دون أجوبة. مورو انسحب من العمل السياسي، وانصرف إلى مشاغل أخرى لها علاقة بالشأن العام. ترك الباب موارباً للعودة إلى السياسة إذا اقتضت المصلحة، إذ سبق له واستقال سنة 1991 من النهضة، عندما اصطدم مع الرئيس بن علي ليعود في الربيع العربي.
 
تراجعُ مورو أفسح المجال للغنوشي كي يتقدّم، ويحصل على منصب رئيس مجلس النواب. إنه يشعر بأن هذا المنصب بالرّغم من أهميته أصغر من طموحاته، إذ حاول أن يكون رئيساً موازياً لرئيس الجمهورية؛ الأمر الذي رفضته الأحزاب والنخب الوطنية، وجعلته مناكفاً ومنافساً للرئيس.
عبير موسي النائبة والناشطة السياسية الشعبويّة تقف بالمرصاد للغنوشي، وتصفه " بأنه حوّل البرلمان إلى وسيلة تنفيذ أجندة الإخوان المسلمين في المغرب العربي؛ ومجلس النواب أصبح مزرعة خاصّة وشخصيّة لشيخ الإخوان ". النهضة تتّهم موسي بالولاء لبن علي، بالرّغم من أنها رئيسة الحزب الدستوري الحرّ، الذي يشكّل كتلة من ستة عشر نائباً.
 
فشل الغنوشي في التخلّص من كونه رئيس حركة أو جماعة ليندمج في منصبه رئيساً للبرلمان لكل التونسيين. ويُقال إنه لم يستطع التنكّر لقسم الإخوان "أضع نفسي تحت تصرف القيادة سامعاً ومطيعاً لأوامرها في العسر واليسر والمنشط والمكره معاهداً على الكتمان وعلى بذل الدم والمال، فإن خنت العهد، وأفشيت السرّ، فسيؤدي إلى إخلاء سبيل الجماعة ويكون مأواك جهنم وبئس المصير".
 
حركة النهضة غير متماسكة. يوجد انقسامات حادّة واختلافات متنوّعة بين أركانها وقيادييها. الغنوشي متمسّك بالكرسي، بالرّغم من رفض مئة شخصيّة نهضويّة له، وثمّة استقالات وانقسامات وجمع توقيعات رفضاً للغنوشي، واتهامات بالفساد وتبييض الأموال والسرقة وتحايل على القانون. النهضة من أكبر الأحزاب التونسية، وهي متورّطة في الفساد والمحسوبية وتعيين أتباعها وأنصارها في مراكز ومناصب حكوميّة.
 
الغنوشي متّهم بالتغطية السياسية على العمليات الإرهابية وحماية منفّذيها قضائياً لدى بعض القضاة المتعاطفين والمنتسبين سرّاً إلى النهضة. ويتردّد أن أخطبوط الإخوان داخل القضاء عطّل أكثر من ستة آلاف ملفّ إرهابي. القضاء مخترق، والإخوان أصبحوا داخل أجهزة القضاء، حيث تغلب الولاءات على الكفاءات في المناصب العليا.
 
وأثير تورّط النهضة في اغتيال الناشطَين اليساريَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي سنة 2014، عندما كشف محامي الدفاع في قضيّتهما وجود غرفة سوداء في النهضة تتولّى اغتيال المعارضين، وتحمي المجموعات الإرهابية المقدّرة بعشرين ألفاً في الجبال، والذين يسرحون ويمرحون من دون محاسبة، وتحت حراسة القضاء المتورّط في ظلّ التغطية السياسية.
 
خلفيّة النهضة تفسّر سبب الانشقاقات السياسية الحادّة وخروج قيادات وشخصيات من الحركة والانضمام إلى جبهة الرفض، حيث يحتدم الصراع بين الأجنحة التي ترفض التمديد لراشد الغنوشي في رئاسة الحركة ورئاسة المجلس أيضاً. حتى المعتدلين باشروا بالمغادرة والابتعاد، ممّا زاد الاحتقان عندما قرّر غنوشي التمسّك بالرئاسة وتأجيل عقد مؤتمر الحركة؛ ممّا أعطى مجموعة المئة الرافضة للتمديد للغنوشي منبراً وقضيّة رأي عام.
 
لحد الآن لا تزال القوى الداعمة للغنوشي مؤيّدة له، ولا تفكّر في بديل له. يُقال إنّ المال والنفوذ يلعبان دوراً في الصراع فيما البلاد مهتمّة بمواجهة جائحة كوفيد 19، التي تُعطى الأولوية شعبياً وسياسياً وحكومياً بعد تفشّيها وتدهور الوضع الصحيّ في البلاد.
 
الأزمات السياسية والأمنية و الاقتصادية والصحية التي تمرّ بها تونس أدّت إلى تراجع شعبية النهضة وبروز تململ وانتقادات للغنوشي بسبب تأجيل مؤتمر الحركة لسنة وأكثر، باعتبار ذلك بدعة غير مسبوقة في الأحزاب الديمقراطية، وتأكيداً لسيطرة الزعيم ورغباته الشخصية.
 
قيادة النهضة تبرّر التأجيل محافظةً على موقع الغنوشي وتماسك الحركة وعدم تعرضها للانقسام والتشرذم. النهضة تشكو من صراع الأجيال، وتواجه أزمات داخلية وخارجية، ممّا خفّض من شعبيتها، ووسّع دائرة أعدائها. بعد 38 سنة من رئاسة الغنوشي للنهضة، تحوّل إلى شخصية جدليّة، ومتّهم بالديكتاتورية واستعمال البرلمان رهينة لاستشراء العنف وتكريس منطق القوة. ثلاث كتل برلمانية: الديمقراطية والإصلاح وتحيا تونس تقدّمت ببلاغات تطالب بإجراءات تأديبية ومتابعة قضائية ضد النائبين المعنّفين صبحي صهارة وسيف الدين مخلوف.
 
تونس تعيش أزمة سياسية حادّة وأزمة ثقة بين مؤسسات النظام، حيث العلاقات متوترة بين رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية من جهة ورئاسة البرلمان والحكومة ضدّ الرئيس قيس سعيّد. الرجل الدستوري والأكاديمي الذي جاء عن طريق الانتخاب تبيّن أنه ضعيف الشخصيّة ولا قاعدة سياسيّة له.
 
الغنوشي الذي اعتقد أنه نموذج للإسلام السياسي المعتدل يشكّل طرفاً سياسياً في أزمات تونس. للرجل طموحات في أن يصل يوماً إلى قصر قرطاج، ويصبح رئيساً للجمهورية. لذلك لا تعاون ولا ثقة بينه وبين الرئيس قيس سعيّد. رئاسة ضعيفة وبرلمان مقسوم وحكومة لا تعمل وسط أزمة صحيّة خانقة وتدهور اقتصادي وماليّ في غياب الاستثمارات والسيّاح. تونس تتألم، وراشد الغنوشي يتفرّج، وسط فوضى سياسية ونيابية عارمة وهيمنة على قرارات الحركة والبرلمان، والأهمّ اللعب بالدستور والقوانين... لبلد مارس الحياة المدنية والعلمانية والديمقراطية لأكثر من سبعة عقود.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم