الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ديموقراطية أميركا... والترامبية

د. خالد محمد باطرفي
تعزيزات أمنية بالقرب من مبنى الكابيتول في واشنطن (أ ف ب).
تعزيزات أمنية بالقرب من مبنى الكابيتول في واشنطن (أ ف ب).
A+ A-
يصح القول إن ما بعد اقتحام انصار ترامب الكونغرس ليس كما قبله. ولكن القصة لا تبدأ هنا، ولا يصح أن تختزل في هذا المشهد رغم صدمته، وهذه اللحظة رغم مفصليتها، في تاريخ الديموقراطية الأميركية. فأميركا التي كتب دستورها المؤسسون الآباء 1781 وتغنّى بها الأبناء والأحفاد، وأصروا على أنها النموذج الأعظم، حتى تاريخه، ليست هي أميركا اليوم. 
 
ويذكرني ذلك باللحظة المفصلية التي أعقبت احتلال القمصان السود لبيروت وصيدا، في أيار (مايو) "الأسود" 2008، ومحاولة اقتحام قصر السرايا الكبير، وإعلان الإنقلاب رسمياً، لولا تدخل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، بحسب السفير السعودي حينها، الدكتور عبدالعزيز خوجه، الذي تعاون مع رئيس مجلس النواب، نبيه بري، لإيقاف الزحف ومنع الكارثة. ومع ذلك، فقد كان ذلك الاستعراض للقوه والجرأة على استخدامها لفرض الإرادة على بقية الطوائف كافياً لتكريس وضع "الحزب" ومن يمثلهم كأغلبية حاكمة، مشرعنة بصناديق الاقتراع والديموقراطية المفصلة على المقاس. 
 
وكما في لبنان، فإن تآكل الهيكل المقدس للديموقراطية الأميركية لم يأتِ في يوم وليلة، أو وليد اللحظة، بل على مدى عقود من التدهور لم يقف في وجهها أحد، ولم تستيقظ النخب لتهديدها الوجودي إلا بعد خراب مالطا. 
 
 
تحولات الإعلام
 
وأعود إلى الوراء قرابة العشرين عاماً، فأذكر أنه بعد حوادث أيلول (سبتمبر)، كنت في جوله إعلامية مع وفد عربي لمركز بحوث في واشنطن عندما اجتمعنا مع بروفسور أميركي كان غروره مستفزاً وهو يحاضرنا عن حرية الصحافة في بلاده، ويسالني ساخراً بين حين وآخر، هل لديكم مثل ذلك؟ 
 
عندما جاء وقت التعليق، قلت له: كل ما ذكرت عن حرية الصحافة ودورها في حماية الديموقراطية صحيح، ولكنه من ذكريات الماضي. فالصحافة التي أراد لها الدستور أن تكون سوقاً حرة لتبادل الأفكار تحولت الى سوبرماركت يملكه أصحاب السلطة والنفوذ، بضاعته مصنعة، معلبة، مكررة. صدمه ما قلت، فسألني عن مصدر هذا الرأي، فأجبت: هو محدثك الذي لا تعجبك صحافة بلده. إرتد عليه الأمر، واصبح خطابه دفاعياً، تبريراً، وأقل غروراً. 
 
لم يكن هذا التراجع في مهنية الصحافة الأميركية وقيم الديموقراطية والحرية سريعاً، فتاريخها يشهد لها، ولكنها، كحال بلادها، أفسدها رأس المال والحزبية المتطرفة. وفي حوار مع ناشر صحيفة "السياتل تايمس" التي تدربت فيها بعد تخرجي من كلية الإعلام في جامعة أوريغن، تحدثنا عن أسباب خسارة الصحف لاستقلاليتها. فمئات الصحف المملوكة لأسر وأفراد كـ"الواشنطن بوست" و"النيويورك تايمس" تحولت الى شركات مساهمة أكبر مساهميها تجار، أو بيعت لشركات لا علاقة لها بالإعلام، كـ"جنرال الكتريك" و"أمازون"، أو استحوذتها شبكات اعلامية كبرى، مثل Gannett التي تملك "يو أس توداي" ومئات الصحف في المدن الكبيرى والصغرى، إضافة الى محطات تلفزيونية واذاعية ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. أما تلك التي حافظت على استقلاليتها ومبادئها مثل "السياتل تايمس" بات عليها أن تتنازل أحياناً لاسترضاء المعلن والبنك المقرض. 
 
 
مبدأ الانصاف وميثاق الشرف الإعلامي
 
ومع ذلك بقي هناك "مبدأ الإنصاف" "Principle of Equity"، وهو قانون فدرالي ينظم عملية صناعة الأخبار، وكان هناك ميثاق الشرف الإعلامي الذي يقوم على مبدأ الرأي والرأي الآخر، وفصل مساحة الرأي الذي يسمح فيه بالتحيز، مع التوثيق والتبرير، عن الأخبار والتقارير المحايدة. كما يفصل تماماً بين الإدارة والتسويق والإعلان، وبين أقسام التحرير. ورغم أن معظم الصحف تميل الى الليبرالية، إلا أنها لا تتحدى قيم المجتمع الدينية والاجتماعية المحافظة. 
 
جل هذا انتهى بعد عام 1987 عندما الغى الرئيس رونالد ريغان قانون "مبدأ الانصاف" بدعوى أن السوق قادرة على تنظيم نفسها بنفسها، وتبع ذلك سقوط ميثاق الشرف مع دخول التجار والتعامل مع المنتج الإعلامي بنفس منطق السوق الحرة. فلم تعد الصحف مقيدة بالمبادئ التي بنيت عليها فكرة السوق الحرة للأفكار، ولا أخلاقيات المهنة التي تلتزم بالحياد وبآداب الحوار والبحث عن الحقيقة مهما كلف الثمن. وسيطر خريجو كليات الأعمال على إدارات التحرير بحثاً عن تحقيق أعلى أرقام المشاهدة والاستماع والقراءة باسترضاء الجمهور بكل مستوياته الثقافية، ودغدغة مشاعره الحسية، على حساب المعلومة الموثقة والخطاب الجاد. 
 
ولأن الجمهور الأميركي منقسم على نفسه بين محافظ وليبرالي، جمهوري وديموقراطي، أبيض وملون، أصبح حال وسائل الأعلام الكبرى كحال الصحافة الرياضية، تحيز في هذا الاتجاه أو ذاك، وخطاب شعبوي يعتمد على الإثارة أكثر من الإفادة، ويوسع مساحة الانقسام الفكري والمجتمعي الى مستوى يهدد وحدة البلاد والقيم التي قامت عليها. 
 
 
ظاهرة ترامب
 
ثم جاء ترامب ليكرس كل ما انتهى اليه الحال، ويخلط بعض أوراقه. فهو لم يأتِ بجديد، فالانقسام الداخلي العرقي والديني والفكري وصل الى مرحلة اللاعودة، وساهم في تكريسه التجاذب الحزبي، بين الجمهوري والديموقراطي، وداخل الحزب الواحد بين اليمين واليسار، المتطرفين، والوسط المعتدل. وركب الإعلام التقليدي والجديد الموجه واسترزق منها. 
 
وترامب نفسه أحد الذين اختاروا مبكراً معسكرهم. فرغم أنه بليونير ورث عن أبيه ثروة طائلة وبنى عليها امبراطورية تحمل اسمه، الا أنه أختار أن يعبر عن غضب الطبقة العمالية والموظفين ذوي الدخل المحدود من إهمال الطبقة السياسية لهمومهم واحتياجاتهم والانشغال بقضايا كونية وعلاقات دولية وحروب خارجية. فعامل منجم الفحم ومهندس بئر النفط ومربي الأبقار لا يهمهم تأثيرات أعمالهم على المناخ وطبقة الأوزون بقدر ما يعنيهم الحفاظ على وظائفهم ومصالحهم، وتسديد أقساط البيت ومدارس وكليات أبنائهم، ودفع فاتورة أقل لوقود السيارة والمدفأة والكهرباء. وأسرة المجندة في العراق أو أفغانستان، لا تعنيهم محاربة الإرهاب الدولي والدفاع عن مصالح الحلفاء بقدر ما يهمهم عودة ابنتهم اليهم لتمارس عملها في حماية بلادها داخل حدودها. ولا يهتم الرجل الأبيض الذي يشعر بأن وظيفته وأمنه ومستقبله مهددين بالتغير الديموغرافي الهائل الذي سيحول عرقه الى أقلية سنة 2040 ويخسر بذلك امتيازاته السياسية والوظيفية والأمنية في بلد يعتبرها بلده وبلد أجداده الذين اكتشفوها وبنوها وحاربوا من أجل توحيدها وقيادتها للعالم الحر، لن تشغله مبادئ الديموقراطية طالما كانت على حسابه.
 
وفي المقابل، يراهن الحزب الديموقراطي، الذي تبنى الجاليات والأعراق والعقائد المختلفة، واستقطب النخب المثقفة والعلمانية واليسارية، بخاصة من اليهود والإيرانيين والأفارقة واللاتينين، على منح الاقامة الدائمة لـ 11 مليون مهاجر غير شرعي والجنسية لمن أمضى خمس سنوات، ولأبنائهم المواليد، وأكثرهم من أميركا الوسطى والجنوبية وكوبا، وضم بورتوريكو، وهي محمية أميركية، لتصبح الولاية الواحدة والخمسين، وفتح ابواب الهجرة على مصراعيها، وبالتالي ضمان مزيد من الأصوات في الانتخابات المقبلة واحتكار السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية مستقبلاً. 
 
وعليه، فإن المعركة الوجودية لم تنتهِ، وظاهرة "الترامبية" لا تزال في مهدها. والرجل يمهد بهذا الإصرار على رفض نتائج الانتخابات والتصعيد الشعبوي الى تأسيس "مظلومية" يتحول فيها اللطم والتطبير الى فعل سياسي مأزوم، وشديد الولاء والتحفيز والتنظيم. 
 
ومن المتوقع ان يقوم بتأسيس حزب جديد يرأسه، بشعار "أميركا أولاً"، يضم التيار المحافظ في الحزب الجمهوري. ولكسب الحرب الإعلامية، قد يطلق قناة تلفزيونية جديدة، ومنصات تواصل اجتماعي تنافس تويتر وفايسبوك وانستغرام، والتي سيقيم عليها الحجة بأنها جزء من المؤامرة الليبرالية باضطهاده، وإيقافها لحساباته، مع السماح لمنافسيه بمهاجمته. والمتوقع أن يسعى في السنوات المقبلة لبناء قاعدة أكبر تتجاوز السبعين مليوناً الذين صوتوا له، وتشمل "المحافظين على القيم الدينية والأميركية"، وكل القلقين على وظائفهم ومصالحهم من سياسات العولمة والمناخ والصين، بيضاً وملونين. وأن يخوض الانتخابات النيابية المقبلة ليضمن تفوق التيار المؤيد له في الكونغرس. وهذا المخطط هو ما يرعب الحزب الديموقراطي ويدفعه الى المطالبة بمحاكمة وعزل وتجريم الرئيس قبل أيام من انتهاء ولايته أو بعدها، ليضمن عدم ترشحه للرئاسة مرة أخرى وخروجه الكامل من المشهد السياسي. 
 
بدخول الجمهور الى الملعب، أصبحت اللعبة أكبر من اللاعبين، حساباتها أصعب، وقوانينها أعقد، وتداعياتها أخطر على مستقبل الولايات المتحدة الأميركية. فعملية اقتحام الكونغرس كانت مجرد صفارة البداية. 
 
@kbatarfi
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم