الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

صديقي هاشم

المصدر: "النهار - حسين الحاج حسن
هاشم السلمان
هاشم السلمان
A+ A-

إنه العام الثامن على رحيلك إلى ديار الحقّ.

 

ليس منّا من نسيك يا هاشم، وليس منّا من وقف ذاك اليوم المشؤوم متفرّجاً شاهداً على مقتلك.

 

ليس منّا يا هاشم من غضّ البصر عن حقيقة من اغتالك، وليس منّا من أذهب التحقيق أدراجَ الرياح.

 

نعم، نقولها وبالفم الملآن، لقد قتلك حرس إيران.

 

في العام الثامن لرحيلك يا صديقي، سأخبر العالم والملأ بمَن أعدمك واغتالك دون رفّة جفنٍ.

 

سأخبر العالم بمَن ضرب النساء، وبمن أرهب الطلاب والشباب.

 

صباح التاسع من حزيران العام 2013، توجّه هاشم السلمان، الناشط ومسؤول الطلاب في حزب الانتماء اللبناني، مع مجموعة من الطلاب الجامعيين، الناشطين، النساء والفتيات، للتظاهر أمام سفارة إيران في بيروت رفضاً لتدخّل حزب الله في الحرب السورية في حينه، واستنكاراً لإقحام جزءٍ من الطائفة الشيعية في آتون صراع مذهبيّ لم ولن يجلب للبنان سوى الويلات.

 

كنت حاضراً في ذاك اليوم إلى جانب هاشم منذ الصباح، وكنت موكلاً بالتنظيم والتنسيق مع المشاركين القادمين من منطقة البقاع ككلّ. لم يعتقد هاشم للحظة واحدة أن قرار اغتياله قد صدر من الصباح الباكر وأن الوداع كان عليه محتّماً.

 

تحرّكت المواكب السيّارة والباصات التي تقلّنا إلى موقع التظاهر، يترأسها هاشم بسيارته، مطلقاً العنان للأغاني الثورية والحماسية.

 

خلف المواكب، آلية لقوى الأمن ترافقنا، وتحرص على تأمين مسارنا. وفي موقع التظاهر، عددٌ من الجنود كان حاضراً مستنفراً يقظاً، وجوده لا بدّ أن يُوحي بالأمن والأمان.

 

وصلنا إلى موقع التظاهر الذي يبعد أكثر من 100 مترٍ عن مبنى السفارة الإيرانية. ترجلّتُ من الباص أولاً، وأعطيت إشارة بيدي لزملائي ورفاقي بالانتظار والتأهب، ثمّ مشيت أمتاراً قليلة متوجّهاّ نحو سيّارة هاشم لأخد الإرشادات.

 

في الأفق، رأيت هاشم يركض نحوي حاملاً بيده "مكبّر الصوت"، ومن خلفه كان العشرات من أصحاب القمصان السود بوجوه مكفهرّة، على زنودهم شارات صفراء، وفي أيديهم عصيان خشبيّة وبعض السلاح الأبيض.

 

المشهد كان مرعباً وصادماً حتى أنني وقفت للحظات دون أيّ حركة، غير مدركٍ لأيٍّ ممّا يجري أمامي، وكأنه حلمٌ مزعجٌ لا بل كابوسٌ لا أقوى على استذكاره مرّة أخرى.

 

أخذني الموقف لثوانٍ عدة قبل أن أتّخذ قراراً سريعاً بالجري دون معرفتي بأيّ اتجاه. لمحت عن يساري الباص الذي أقلّنا، فأملت أن يكون الأكثر أماناً لي، وظننت أن كلّ ما يجري حولنا سينتهي قريباً، وأن أجهزة الأمن الحاضرة لن تقف متفرّجة على ما يجري.

 

أحنيت رأسي تحت مقاعد الباص الحديدية، وفي آذاني أسمع صراخاً وبكاءً، يرافقه بين الحين والآخر صوت ضربات وأنين ألمٍ، لم أعد أقوى على تحمّله. مضى بعض الوقت، وأنا في مخبئي، قبل أن أسمع صوت طلقات نارية عدة، ثم ارتطام جسدٍ مثقل بالجراح على الأرض.

 

توقّف عدّاد الوقت لديّ، ولم أعد مدركاً بكلّ ما يجري من حولي. في الخارج، كانت تنهال العصي بالضربات على أجساد الطلاب والنساء؛ آخرون كانوا يركضون هائمين في ساحة مغلقة لا مفّر منها، يعلو صراخهم ونداءاتهم للقوى الأمنية من دون أيّ مجيب. حينما انتهى المعتدون من إشباع غريزتهم بالتنكيل بكلّ من صدف وجوده أمامهم، انتقلوا لتهشيم وتكسير كلّ الآليات والسيّارات المتوقّفة إلى جانب الطريق.

 

لم أسلم من ضرباتٍ كانت تجتاحني من خارج زجاج الباص. لم أكن أشعر بأيّ ألم أو جراحٍ، فكلّ ما يجول خاطري هو سؤال أوحد: متى ينتهي كلّ هذا الكابوس؟

دقائق عدة، ويصعد أحد الرجال الموكلين بالأمن الباص مبعداً عناصر حزب الله، وهو يقول لهم بالحرف "خلص، بزيادة هلقد!"، فعلاً بزيادة هلقد.

 

هرعت ومَن كان مختباً معي في الباص نحو آلية عسكرية، كان يقف إلى جانبها عددٌ من العناصر وسط منطقةٍ كانت أشبه بساحة معركة.

 

على الأرض كان عددٌ من الجرحى، أحدهم بحالٍ خطرة يئنُّ من الألم دون مسعفٍ أو مجيب. وفي تلك اللحظات، لمحت جسدَ هاشم ممدّداً على الأرض قرب الباص المهشّم يلفظ أنفاسه الأخيرة.

 

ارتعبت، ثم حبست أنفاسي غير مصدّق حتى الساعة ما يجري. اقتربت من أحد العناصر الأمنية ورجوته أن يخرجني من المنطقة، فأجابني بأنه لا يملك الأوامر لذلك. عدت وكرّرت طلبي من جديد آملاً في أن تشمله الرأفة، لكنّه رفض مجدّداً معتذراً بأنه لم يأخذ الأوامر بالتحرك.

 

أذكر أن الوقت امتدّ لأكثر من خمس عشرة دقيقة، استطعت خلالها أن اتمالك نفسي، وأن أعي ما جرى ويجري من حولي. قفزت بسرعة إلى الآلية العسكرية إلى جانبي محتمياً بدروعها الزجاجية، ثم ساعدت مجموعة من الأصدقاء كانوا إلى جانبي على الاحتماء في الآليّة أيضاً.

 

خلال لحظات، انطلقت الآليّة بنا، ونقلتنا إلى إحدى الثكنات العسكرية القريبة من ساحة المعركة.

 

هناك، استطعت أن أغسل رأسي والدماء من على وجهي، واستطعت أن أخرج هاتفي للمرة الأولى. كانت مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية تشير إلى وقوع إصابات في صفوف متظاهرين أمام السفارة الإيرانية من دون أيّ تفاصيل. لم يكن يعلم أحد في لحظتها أن هاشم كان قد سقط شهيداً.

 

استمرّ احتجازي أنا ورفاقي في تلك الثكنة ساعات عدّة، منع خلالها سيارات عدّة، ومنها التابعة للإسعاف بالدخول وإخلائنا بحجّة أن المنطقة لا تزال غير آمنة، وأن عناصر حزب الله لا تزال تتربّص بنا شراً خارج أسوار المبنى.

 

في ساعة متأخرة من بعد ظهر ذاك اليوم، أخبرنا أنه سيتم نقلنا عبر آلية عسكرية مدرّعة إلى مكتب حزب الانتماء اللبناني الواقع في منطقة الحازمية، وهو ما جرى. وصلنا إلى المكتب الذي كان يعجّ بالزوّار والصحافيين، بالزملاء والرفاق. كان الضجيج يرتفع أحياناً ثم يليه بكاءٌ؛ بعدها خرج الخبر اليقين للصحافة والإعلام: "هاشم السلمان قتل بدمٍ بارد على مرأى ومسمع العالم بأسره."

 

ثماني سنوات مضت على الاغتيال، حدث الكثير خلالها إلا أن عدالة الأرض لهاشم لم تتحقّق بعد.

 

عدالة مهما طال الزمن، ومهما تعاظم جبروت قاتليك يا هاشم، لا بدّ أن تبصر النور يوماً.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم