الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كيف نخرج أحياء من "نظام الضرورات يبيح المحظورات"؟

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
غسان صليبي
 
يصح وصف نظامنا الحالي في لبنان، في اشتغاله الفعلي، وليس كما هو وارد على الورق، أو في التحليلات السابقة للانهيار، بـ"نظام الضرورات تبيح المحظورات". اي انه يعمل بحسب "الضرورات"، لا بحسب الدستور أو القانون أو العرف، ولا حتى بحسب السياسات الوطنية والاقتصادية والمالية التي اعتمدتها السلطة نفسها، كما أنه يبيح لنفسه اللجوء الى المحظورات الدستورية والقانونية والأخلاقية، استجابة لهذه "الضرورات".
 
كل التسميات الأخرى للنظام القائم، أصبحت باهتة، من مثل النظام البرلماني أو النظام الطائفي أو النظام الحر أو النظام الريعي فلا "ضرورة" للرجوع الى هذه الانظمة، عندما يحين وقت الفعل الجدي، الا من قبيل الاستخدام المصلحي او اللفظي، لتبرير اشتغال النظام القائم بالفعل.
 
لا أسمّيه "نظام الضرورات يبيح المحظورات"، نظراً لأنه في غياب رئيس للجمهورية، تجتمع حكومة تصريف الاعمال رغم أنها مستقيلة، لإقرار ما هو "ضروري". او لأن رئيس المجلس النيابي، يدعو إلى جلسة لـ"تشريع الضرورة"، رغم تحوّل المجلس دستوريا الى هيئة انتخابية من واجبها انتخاب رئيس للجمهورية، فقط لا غير. وقد صرّح بري بوضوح: "الضرورات تبيح المحظورات في الشأنين المتصلين بانتخاب رئيس الجمهورية والموضوع الحكومي".
 
أسمّيه "نظام الضرورات يبيح المحظورات"، لأن "الضرورات والمحظورات" المقصودة هنا، ليست ظرفية متعلقة بانتخاب رئاسة الجمهورية، أو بمناسبات رسمية أخرى، بل هي "ضرورات ومحظورات" أصبحت بنيوية، متجذرة في الواقع اللبناني، سبقت انتخاب الرئاسة وستليه، على مستوى الحكم والشعب في آن واحد. فعدم انتخاب رئيس للجمهورية هو في حد ذاته من المحظورات التي أملتها "ضرورات".
 
على مستوى الحكم، هي ضرورات اقليمية، رسّخت هيمنة "حزب الله" على البلاد، بالتضامن والتكافل، مع "المنظومة" الحاكمة، خدمة للإستراتيجيا الإيرانية. إنها "ضرورات" الحفاظ على "المقاومة"" بسلاحها وعقيدتها وجمهورها وأهدافها وبنيتها التحتية وحرية تحركها. بدا ذلك فاقعاً عندما حاولت الحكومة المس بشبكة الاتصالات المستقلة لـ"حزب الله"، فكانت "غزوة بيروت"، التي ترافقت مع ارتكاب كم هائل من المحظورات الامنية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاخلاقية، في قلب العاصمة. كذلك، كان لافتاً، في مناسبة انتخاب رئيس للجمهورية، تركيز "حزب الله" على "ضرورة" "الا يطعن هذا الرئيس المقاومة بظهرها"، فيما الأمور الأخرى التي لها علاقة بتعافي البلاد التي تعاني من الانهيار، لم تحظَ بأي اهتمام.
 
تلبية هذه "الضرورات" الإقليمية وتبعاتها المحلية، نتجت منها إباحة "محظورات" شتى، من مثل:
- ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل بمباركة اميركية، والتنازل عن مساحة كبيرة من الثورة المائية اللبنانية لصالح إسرائيل.
 
- التعمية الغربية على قصف اسرائيل لمرفأ بيروت، بمباركة إيرانية.
 
- تهريب الدولارات والسلع الى سوريا، على حساب مصالح الشعب اللبناني، بمباركة سياسية وقضائية وامنية رسمية.
 
- تعطيل القضاء، بمباركة سياسية وقضائية وامنية رسمية.
 
- تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية.
 
- تعطيل جميع المحاولات لإجراء إصلاحات سياسية ومالية واقتصادية وقضائية.
 
- تخريب العلاقات مع البلدان العربية الخليجية، حتى ولو أدى ذلك الى خراب بيوت العاملين هناك واهاليهم في لبنان.
 
- التهديد الدائم بالحرب مع اسرائيل، فيما البؤس يضرب الوطن وشعبه الذي اصبح في وضع كارثي.
 
- التعامل بعشوائية تامة، على جميع المستويات الرسمية وبدون ضوابط، مع سعر صرف العملة الوطنية لصالح الدولار، واستئساد المصارف على المودعين والقضاء، ضاربة بعرض الحائط القوانين والعقود مع المودعين، في موازاة صعود نظام مالي جديد غير شرعي، يملكه ويديره "حزب الله".
 
- وغيرها الكثير الكثير من المحظورات، يرتكبها "حزب الله" واركان السلطة ومصرف لبنان والمصارف والقضاء والأجهزة الامنية.
 
كل الاعتبارات تسقط عند الحاجة لتلبية الضرورات الاقليمية ومستلزماتها المحلية، وكل المحظورات تصبح مباحة، في السياسة والاقتصاد والقضاء والامن والأخلاق. ورأينا أخيرا كيف ان الضرورة الاقليمية الايرانية، جعلت أطراف "الممانعة" يتسابقون على الترحيب بالإتفاق السعودي - الايراني، ويتوقعون منه كل الخير، بعدما كانت العلاقة مع السعودية من المحظورات وفي مرتبة الخيانة، وتُنعت بأبشع الاوصاف. الضرورات نفسها ستحتم للأسف قبول اللبنانيين، بواسطة النواب، محظور اختيار ايران والسعودية رئيسا للبنان، بالتزامن مع فرض مسار سياسي على المديين القريب والمتوسط.
 
هي "ضرورات" أصبحت بنيوية للأسف على مستوى الشعب أيضا، ولو كانت ضرورات من طبيعة أخرى. فهي الضرورات التي تفرضها الضائقة المعيشية، حيث أن الشعب لم يعد يعيش الا من أجل تلبية هذه الضرورات الاولية، دون غيرها من الاحتياجات الفردية والمجتمعية. الحكومة تبرر اجتماعاتها بأنها تريد تلبية ضرورات الناس التي لا تستطيع الانتظار. لكن الحكومات التي ستأتي بعدها، اي بعد انتخاب رئيس للجمهورية، لن يكون على جدول اعمالها، سوى الضرورات الاولية نفسها، التي كما يبدو، سيتخبط بها الشعب اللبناني لسنوات طويلة. لا سيما في ظل إحجام الطبقة السياسية عن القيام بأي خطوات اصلاحية للواقع المالي والاقتصادي والسياسي، وفي ظل مباركة اقليمية ودولية للوضع القائم. فالضرورات على هذين المستويين، تستدعي تثبيت الضرورات على مستوى معيشة الشعب.
 
والشعب نفسه يلحأ أيضاً للاسف الى المحظورات. على المستوى الفردي، من خلال القتل والسرقة والفساد ومختلف التعديات على حقوق الآخرين. على المستوى الجماعي، حيث تضطر النقابات والروابط والتجمعات، عبر لجوئها الى تحركات مطلبية محقة لا تتجاوز الضرورات الاولية، الى تعريض مصالح المواطنين للخطر، كما حصل ويحصل، في اضرابات القضاة والمعلمين وموظفي القطاع العام وغيرهم، وذلك عبر تعطيل الخدمات القضائية والتعليمية والادارية الرسمية.
 
"حالة الضرورة" مصطلح قديم قدم القانون الجنائي، فقد اعترف بها القانون الروماني والشريعة الإسلامية وكذلك القانون الجرماني، ثم انتقلت بعد ذلك الى فرنسا. وهي اجتهاد قانوني يسمح باللجوء الى ممارسات غير قانونية، للحؤول دون حصول ما هو أخطر. في القانون العام، تجري بلورة نظريات الظروف الاستثنائية او حالة الطوارئ بالاستناد الى هذا المصطلح. لكن كل هذه المصطلحات مرتبطة بما يُعرف بـ"داعي مصلحة الدولة العليا"، او raison d’Etat بالفرنسية، التي يتم باسمها، ووفق ما تقتضيه هي، معالجة "حالة الضرورة".
 
محظورات "حالة الضرورة" تُطبق في لبنان بدون الحاجة للعودة الى قانون أو الى قرارات رسمية او الى اجتهادات قضائية، كما في البلدان الأخرى التي لا تزال تحكمها دولة. "حالة الضرورة" تحوّلت في لبنان الى نظام: "نظام الضرورات يبيح المحظورات". فانحلال الدولة اللبنانية، اسقط معه "داعي مصلحة الدولة العليا" la raison d'état، لصالح مصلحة "دويلة" تحكم بواسطة اركان الدولة المنحلة، وبقوة دولة اقليمية، وفقا لـ"دواعي مصلحة الدولة الاقليمية العليا". لا حرج في كل ذلك، فـ"الضرورات تبيح المحظورات"، كما يقول الفقه الديني محدِّداً الحالات والشروط، الذي ينسحب كما يبدو على التأويلات السياسية لكن بدون تحديد لا للحالات ولا للشروط، في نظام فرعي لبناني، في إطار نظام اقليمي اوسع، لا يميّز بين الديني والسياسي والعسكري.
 
لا إمكان للخروج من "حالة الضرورة" في لبنان -التي عممت محظورات انتشرت في المؤسسات وعلى جميع الصعد، وكأن البلاد أصبحت تحت حكم شريعة الغاب- الا من خلال استعادة الدولة، كـ"ضرورة مطلقة"، وما يستتبعها من "داعي مصلحة الدولة العليا"، التي تفترض في ظروف لبنان الحالية، حصر السلاح بيد الدولة، من خلال استراتيجيا دفاعية، وإقرار خطة تعافٍ تأخذ في الاعتبار مصلحة اكثرية الشعب اللبناني، وتحافظ على ممتلكات الدولة. انهما هدفان اساسيان، لاي معارضة فعلية، لا تريد للشعب اللبناني ان يبقى، لمدة طويلة، طريدة سهلة للمحظورات. وتحقيق الهدفين يفترض العمل على مستويين في الوقت نفسه: المستوى الداخلي من خلال الضغط على السلطة الحالية، المتمثلة بـ"الثنائي الشيعي" و"التيار الوطني الحر" وفريق ميقاتي وما يرتبط به من مصالح؛ والمستوى الخارجي من خلال الضغط للدخول كفريق مفاوض مع الخماسي الدولي+ايران بعد الاتفاق الايراني-السعودي من جهة، ومع صندوق النقد الدولي من جهة ثانية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم