الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مدخل حرب الأفيون... اصطدام حضارتين

المصدر: "النهار"
منى فياض
مشهد عام من هونغ كونغ (أ ف ب).
مشهد عام من هونغ كونغ (أ ف ب).
A+ A-
كتب الفيلسوف الصيني تشوانغ تسو، أن ادراك الأشياء مشرّط باللغة. من هنا تنشأ المشاكل والنزاعات حول طبيعة الواقع. فاللغة تستند الى مرجعيات repéres، وكل شخص يفهم النص انطلاقاً من نقاط ارتكازه اللغوية والثقافية.
 
لم تصطدم بعثة مكارتني، التي وثّقها آلان يرفت في كتابه "L’empire Immobile"، فقط بحاجز اللغة. تكتب حنة أرندت "ان الكلام لا يكون موثوقاً إلا حين تكون ثمة قناعة أن غايته الكشف لا الإخفاء"، فيما جميع من احتكوا بالإنكليز، من حاشية الإمبراطور كيانلوغ لم يكونوا هم من يرسلون الرسائل مباشرة للإمبراطور، بل شخص ثالث أعلى رتبة. وهذا الأخير ممنوع من اللقاء بالإنكليز ولا يرسل إلا ما يرضي الإمبراطور. فعندما تجرّأ أحد الماندارين على نقل طلب الصفح لأوروبي معاقب لمخالفته القوانين، شنق ببساطة. حكماً ينتج عن ذلك التحوير في الرسائل بحكم أواليات الاتصال العلمية.
 
ولقد بينت جائحة كوفيد وسياسة التعتيم التي اتبعتها الصين في التعامل مع الجائحة استمراريتها في اعتماد الغموض والرسائل المتناقضة.
 
ولقد تبيّن من المراسلات مع الإنكليز، أن أجوبة الإمبراطور كانت جاهزة قبل قراءة الرسائل. لذا كان تشويه المعلومات يحصل في كل لحظة: بالتوهم والشك والإخفاء والصمت، ما يؤدي إلى عدم التفاهم المتبادل الدائم وتصادم عالمين.
 
لم يفهم الإنكليز ذلك في البداية، إذ كانوا كمن ينظر إلى السماء من فتحة بئر، بحسب فيلسوفنا الصيني. فلا يرون سوى جزء صغير منها.
 
كمنت المشكلة بين الفكر الإنكليزي الحيوي والمستعد لأخذ الأفضل من العالمين، والفكر الصيني المعتمد على التقليد والتخمين، بحيث يجد أن اعتماد الجديد كالعربات الإنكليزية الحديثة مثلاً، سيعني تغيير العالم. وهذا مرفوض.
 
أبدى بيرفيت ذهوله، بعد زيارته هونغ كونغ في الستينيات، أمام التشابه بين المجتمع الذي وجده وبين ذلك الذي وصفه مكارتني. كأنه يمكن القول إن كل صيني يحمل في جيناته تراث إمبراطورية كيانلوغ بأكمله. فللصين طريقة خاصة صينية في الانتفاض على نفسها. فلكي تقطع مع ماضيها تبحث عن مرجعيات تتمسك بها للتأكيد على الثبات. خلال 4 آلاف سنة كانت الصين، مهما تحركت وانفجرت وتشلّعت، تعود لتتخذ شكلها الأصلي.
 
دهشت البعثة أمام النشاط الذي يسود الصين طوال الوقت. في البرد وفي الحر، في الليل وفي النهار، لا وقت للفراغ. لا يوجد شحاذين. الصينيون يعملون بأي شيء، يحملون على أكتافهم ما يمكن أن تنقله العربات. هناك الكثير من الأذرع شديدة الانتباه لعملها وتتمتع بمهارة ودقة. يخلط الصينيون التكنولوجيا بعمل اليد العاملة. وهذا ما يجذب الشركات والمصانع حتى الآن. انهم قساة على الجهد، ولا يهتمون بموت الآخر، يتدافعون ويدوسون بعضهم بعضًا فقط للتفرج على الإنكليز.
 
اعتاد الشعب الصيني المحن، فهو لا يتلقى أي نوع من المساعدات. لا وجود لإحساس بالمسؤولية تجاه الشعب. الإمبراطور يساعدهم في حالة واحدة: عند حصول مجاعات.
 
الصين شديدة الازدحام ومهددة دائماً بالبؤس والفوضى السياسية أو الانفجار. وأمام احتمالات الريبة وشك الوجود يختار الصيني الجماعة، فهي التي تحدد مكانة الفرد، ما يجب وما لا يجب، ما عليه أن يفكر فيه أو لا. السمة الطاغية عبادة السلف والتراتبية الفظيعة.
 
لاحظ بيرفيت أن نمط تعاملهم مع بعثة مكارتني ظل مستمراً في ظل صين ماو الشيوعية. نفس أولوية الأرض والفلاحين ونفس الاحتقار للأجانب. نفس النزاعات السرية التي تدل عليها بعض الإشارات التي لا تُفهم سوى بشكل متأخر. نفس التقشف ونفس وعاء الأرز ونفس الخضار المطهية ونفس القطن الأزرق للملابس ونفس الذوق للتبغ...
 
حينها اعتبر الصينيون أن الإنجازات العلمية مجرد تسلية. لم يلتفتوا إلى المدافع ولم يجربوها لأنهم يرفضون كل جديد. اعتبروا أنفسهم مهرة لدرجة الاستغناء عن تلك المدافع التي ستستخدم ضدهم. فظلت سالمة وأعيدت عام 1860 إلى انجلترا. فهل كانوا يفضلون الفشل بدل الاعتراف بدونيتهم في ميدان حساس كالميدان العسكري؟ مع أنهم كانوا حذرين وظلوا يدارون الإنكليز الذين، إذا لم يكونوا برابرة يمكنهم أن يكونوا خطرين: فلديهم سفن كثيرة وقوية وقد يحاولون الانتقام. لذا قاموا بكل ما يمكنهم ليثبطوا همة الإنكليز كي لا يتاجروا مع الداخل الصيني. أرادوا بذلك توضيح الوضع لجميع الغربيين كي لا يطمعوا فيطالبون بمعاملتهم كالإنكليز؛ خصوصاً أن للأخيرين سمعة كونهم تجاراً وخبثاء.
 
إذن في الوقت الذي تميّز فيه الإنكليز بنقل مستوى المباحثات، سواء الدبلوماسية أو التجارية، إلى مستوى غير مسبوق في سبيل الهيمنة التجارية، دفعت الصين المنشورية احتقار التجار وانعدام الثقة بالتفاوض إلى حده الأقصى؛ مع أن التجارة الداخلية نامية جيداً، عكس التجارة الخارجية المخنوقة بواسطة مونوبول تحت سيطرة البيروقراطية. ممنوع على الصيني المتاجرة مع الأجانب أو خدمتهم تحت طائلة الترحيل. الغرب والغريب يهدد الهوية. فكيف سينجح مكارتني ورفاقه في محاولتهم اقتراح الانفتاح وحركة التبادل؟؟
 
ساهم انعدام الصبر الإنكليزي المتصاعد، بمواجهة إمبراطورية الوسط التي تتباهى بغطرسة تفوّق فقدته، في تدهور الوضع بين الدينامية الإنكليزية مقابل تصلب الصينيين دون امتلاكهم وسائل وأدوات تسمح لهم بذلك. أدى كل ذلك الى الاستياء المتبادل بينهما.
 
الحروب تشرعن نفسها دائماً انطلاقاً من تذرعها "بالحق" un bon droit كجزء من موقف ميتافيزيقي. الحق بالكمال النهائي بالنسبة للصينيين. والحق بالتقدم نحو الكمال بالنسبة للإنكليز. لذا لم يلتقيا في نفس العالم الذهني. وكلما اقتربا، كانا يتباعدان ويرفض واحدهما الآخر. وفي هذا اللاتفاهم المتقرّح، تصادمت حضارتان كل واحدة منهما تعتقد أنها الوحيدة المتفردة في العالم.
 
جاءت بعثة الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغيب عنها الشمس، للتجارة وبيع منتجاتها. في المقابل قام الصينيون بكل ما بوسعهم ليثبطوا همتهم ومنعهم من المتاجرة مع الداخل.
 
وبما أن الإنكليز كانوا يخططون لإمبراطورية على الطريقة الفينيقية، إمبراطورية دون مستعمرات، أول ما لفت نظر البعثة، في هذا السياق، شغف الصينيين بالتدخين، الموضة الرائجة: الجميع يدخن حتى الأطفال. وشغف الكبار بتدخين الأفيون. كتب حينها الهولندي فان برام، أن استخدام هذه المادة المخدرة قد ازداد كثيراً في الـ25 سنة الأخيرة بحيث بلغ ألفين و400 صندوق.
 
ومع أن البعثة لم تشر إلا موضوع تجارة الأفيون في مراسلاتها، إلا أن مكارتني لم يكن يجهل أن تجارة التهريب بهذه المادة ستكون مثمرة، تحت غطاء شفاف لشركة الهند. فكان لا بد ان تحصل المواجهة بين الصينيين الذين اتخذوا قرار محاربة تدخين الأفيون وبين الإنجليز الذين أرادوا المتاجرة الربحية به. بينما كان السؤال، بالنسبة للصيني، يتعلق بمحاربة المخدرات التي تهدد البلاد، كان بالنسبة للإنكليزي، مسألة حرية التعهدات والتجارة المقدسة. لخّص وات للملك جورج غايتهم من حرية التجارة: نبيع العالم ما يريد، نبيعه power في تلاعب على الكلام: سلطة وطاقة".
 
يبيّن بيرفيت أن البعثة فشلت في مسعاها في الحصول على إذن بالتجارة الحرة مع الصين.
 
استنتج عندها مكارتني، أن لا شيء سوى الاحتلال من بلد متحضر يمكن أن يجعل من الصين وطناً متحضراً.
 
في خلط بين الحضارة والتجارة والهيمنة الاستعمارية.
 
نُشر في موقع "الحرة".
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم