الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

هل سقط الحلم الأميركي؟

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
صورة تعبيرية.
صورة تعبيرية.
A+ A-
العظمة حالات وأحوال. فأنت عظيم بمالك، بعلمك، بنسبك، أو بخلقك. وأنت عظيم لأنّ مَن حولك بحاجة إلى أسباب عظمتك، كرماً، وعلماً، ووجاهة وقدوة. وكذلك الأمم. والأمّة الأميركية برزت، وعلت، وعظم شأنها عند غيرها من الأمم، لأنها كانت الثريّ الذي يُعطي، والعالم الذي يُعلّم، والوجيه الذي يصلح ويصالح، والقدوة التي تتطلّع إليها الشعوب.

سؤال القرن
تبادلت وصديقاً سعوديّاً، درسَ مثلي في الولايات المتحدة في الفصل الأخير من القرن العشرين، تجاربنا الشخصيّة وكيف أبهرتنا المدنية والثقافة الأميركية. وكان أكثر ما أعلى مكانة أميركا في عقولنا وقلوبنا الحضارة الإنسانية المبنية على قيم العمل، وأخلاقيّات المعاملة، كالعدالة والمساواة والاحترام. وعلى المستوى الشخصي، أُعجبنا بالمبادرة، واللطف، والتواضع، والرفق بالإنسان والحيوان والبيئة، كما استمتعنا بالرّخاء والتنوّع والوفرة في المنتجات والخدمات، وبمستوى عرضها وتقديمها.

ثم سألني فجأة: كيف ترى أميركا اليوم؟
هل لا تزال هي التي عرفناها أم أنّ مستقبلها القيادي والريادي والأخلاقي بين الأمم يقترب من خط النهاية؟
وهل لا يزال الحلم الأميركي ملهماً للبشر، أم أنه تهاوى تحت معاول الهدم الداخلية، ورياح التغيير السياسية والفكرية والمجتمعية؟

أميركا التي كانت
تذكّرت وقتها، ورويت له، ما قلته لعدد من المثقفين والإعلاميين والدبلوماسيين في لقاء نظّمته الخارجية الأميركية في خريف العام 2006، في مدينة سياتل بولاية واشنطن. كان الحوار حول مخططات واشنطن لتدمير، وإعادة بناء منطقة "الشرق الأوسط الكبير"، بدءاً بغزو واحتلال أفغانستان والعراق، ودعمها الأعمى لإسرائيل، وسعيها لتقسيم دول المنطقة وتثوير شعوبها، وهوسها بفرض أنظمة إدارة وقوانين مجتمعية لا تتماهى مع قيم وعادات وأخلاقيات الشعوب العربية والإسلامية المحافظة.

قلت لهم ما ألخصه، وأضيف عليه هنا؛ فأوضحت أن أميركا كانت القوة الأعظم في تاريخ العالم لعقود، لأنها بنت مجدها على فكرة مثلى: أسلوب حياة حرّة، ثريّة، مدهشة، وحلم جميل بعالم جديد ملهم، يتمتّع فيه الناس بأعلى معايير الصحة والتعليم والانماء والرخاء والحق الدستوريّ في المساواة والحرية والسعادة. إنها جودة الحياة.
ونبّهت إلى أن أميركا، وقتها، لم يكن لها تاريخ استعماريّ بغيض، كما كان لأوروبا، وكانت ثقافتها الشعبية والنخبوية، تغزو العقول والقلوب. وكان جيشها الذي يجوب العالم يتمثل في "قوات السلام" لمحاربة الفقر والمرض والجهل. وكانت مساعداتها، منذ برنامج "مارشال"، لإعادة بناء وإحياء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى برامجها الاقتصادية لإخراج العالم من الركود الاقتصادي، وصولاً إلى المساعدات العينية والمادية والعلمية والتدريبية التي شملت عشرات الدول، وملايين البشر، هدفها تحقيق التنمية.

أميركا الجديدة
أما اليوم، فقد تغيّرت أميركا، خاصة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وانهيار المعسكر الشيوعيّ، واستفراد واشنطن بقيادة العالم كقطب واحد ووحيد. فمن دون الحاجة إلى منافسة الماركسيّة على كسب العقول والقلوب، سقطت أقنعة التسامح والعطاء، وتبدّت أنياب الوحش القديم، الجديد. فالطمع في مقدّرات وكنوز العالم دفع المخططين في البيت الأبيض إلى الغزو المباشر للبلدان التي تملكها، وشجّعهم غرور المنتصر والحاكم الأوحد إلى الإصرار على تغيير صورة العالم لتشابه صورتهم، وإلى "فرض" أسلوب حياتهم وثقافتهم "الأرقى" على الآخرين، وإلى إعادة رسم خريطة الكون على النّسق الذي يوافق أهواءهم ومصالحهم ورؤيتهم الخاصة.

وجادلت المستمعين بأنّ بلادهم لم تكن بحاجة إلى استخدام القوّة الخشنة لتحقيق ما تريد. فقوّتها الناعمة كانت تكفي لتحقق لها ما تريد، بالتدريج. فناسا، والسي إن إن، وهوليوود، وديزني، ومايكروسوفت، وأبل، وغوغل، وجي إم، وغيرهم من المنتجين والمنتجات، والإنجازات الفضائية والثقافية والصناعية والتقنية والخدماتية سحرت العالم، وربطت مصالحه ومعارفه وتطلعاته بالثقافة والاقتصاد الأميركيين.

ووقتها، كان رائد الفضاء، نيل آرمسترونغ، والملاكم محمد علي، ونجم السلة مايكل جوردان، والمغنّي مايكل جاكسون، والممثلة لوسي، أكثر نجوم الأرض شعبية؛ وكانت ساندويتشات البرغر، ومشروبات الكولا، وبرامج الويندوز، وأجهزة أبل، وموسيقى الراب والجاز، ومسلسلات "دالاس"، و"ستار تريك"، وتلفزيون الواقع، وأفلام حرب النجوم جزءاً جميلاً وممتعاً ومشوقاً في حياة كلّ إنسان على وجه الأرض.

سرّ التغيير
واستنتجت أن سبب هذا التحوّل وجودُ توجّه استراتيجي في الدولة العميقة، ولدى النخبة الحاكمة، يرى أن الهيمنة يجب أن تكون أسرع، وأشمل، وأقوى، وأجدى. فالرأسمالية والديمقراطية بنسختها الأميركية يجب أن تسيطر على أسواق ونظم الحكم الدولية، ومفاهيمهم الدينية والجنسية والفكرية يجب أن تسود بإقصاء غيرها، اليوم قبل الغد.

وأضيف الآن إلى ما قلته قبل سبعة عشر عاماً أن المستهدف بهذه الحملة يتطلّع إلى النموذج الأميركي فيرى بلداً يتمزّق بين تيّارات متصارعة، أبرزها التيار المحافظ على القيم والسياسات الأميركية التقليدية، وتيار يساري وليبرالي متطرّف، يعمل على إلغاء كلّ ما قامت عليه البلاد وتعارفَ عليه أهلها، وعلى فرض مفهومهم الخاص للحكم والمجتمع والعمل والحريات، ولو تطلّب ذلك إعادة كتابة الدستور، وتحييد الأديان والقيم المجتمعية. وقد بلغ الصراع مدى يهدّد بحرب أهليّة، قد تؤدّي إلى سقوط الهيكل وانهيار الأنموذج الأميركي. وأمام هذا المشهد المأزوم والقبيح، تبدو عملية تصدير الثقافة وأسلوب الحياة وفرض القيم والمفاهيم على الغير مشروعاً محكوماً بالفشل الذريع، والرّفض له، والتمترس ضده.

عودة الأقطاب
ثمّ إن أميركا لم تعد قطباً أوحد، ولا نموذجاً وحيداً للنجاح. فالصين أصبحت قطباً مقابلاً، حقّق نجاحاً مذهلاً عبر عقود قليلة، وباتت قوّة اقتصاديّة وعلميّة وحتى عسكريّة مرشّحة خلال عشرة أعوام لتماثل أو تسبق القوة البيضاء مجتمعة؛ وحضورها كمستثمر وتاجر وسياسيّ يمثل روح الشرق وأخلاقيّاته المحافظة، ولا يتعدّى أو يهدّد أو يتدخّل في شؤون غيره، يفتح لها أبواب القبول والاحترام والتعاون عند العالم النامي.

كذلك بدأت الصين مبكراً في بناء تحالفاتها الدوليّة، العابرة للقارات، مثل "شانغهاي"، و"بريكست"، ومشروع "طريق الحرير" و"الطوق البحري"، وأقامت استثمارات ملياريّة في المشاريع التنموية والصناعية والتعدينية، خاصة في دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. واستنسخت التجربة الأميركية ففتحت جامعاتها ومراكز أبحاثها للدارسين من العالم النامي.

اطلبوا "الحلم" ولو في الصين
كذلك اعتمدت بعض الجامعات والمعاهد الصينية اللغة الإنكليزية في التدريس والبحث العلمي تيسيراً على الدارسين والباحثين.
وفي المقابل، قام كثيرٌ من الدول، ومنها السعودية، بتدريس اللغة الصينية في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، وبتنشيط خطوط التجارة مع الصين. واستخدمت بعضها اليوان والعملات المحليّة في معاملاتها المالية، متجاوزة بذلك العملات الغربيّة، وأهمها، الدولار واليورو.

وأعود إلى سؤال صديقي السعودي، فأجيب بأن التحوّلات في المشهد الأميركي، الداخلي والخارجي، يمضي بالأنموذج الأميركي الحضاريّ إلى مقبرة التاريخ، ويقضي على الحلم الأميركي في وعي وشعور الجمهور الكونيّ.
وفي المقابل، تستيقظ أحلام ونماذج جديدة لحياة أكثر جودة، وأقلّ تنمّراً وتفلّتاً ووقاحة، وتتحقق برؤية وطنية ونكهة محليّة في مشارق الأرض ومغاربها، ولنا في الخليج العربي منها أوفر الحظ والنصيب.

@kbatarfi
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم