الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

عن التعصب واضطهاد الأقليات في المجتمعات العربية

المصدر: "النهار"
منى فياض
عن التعصب واضطهاد الأقليات في المجتمعات العربية
عن التعصب واضطهاد الأقليات في المجتمعات العربية
A+ A-
عندما أشرت لأول مرة إلى عنصريتنا كعرب، في مطلع هذه الألفية، في لقاء أكاديمي، قوبلت بالدهشة والاعتراض؛ ففي ذهن العرب والمسلمين أنهم مثال التسامح وقبول الآخر، خصوصاً أبناء الديانات الأخرى.

لكن نموذج عنصريتنا "الخفيّة" يُختصر بجملة صدام حسين الشهيرة:" أكراد وعرب، كلّنا عرب"، أو ببعض خطب الجمعة عندما يحرّض رجال الدين على المذاهب والأديان الأخرى، أو الهجوم الذي شنته وكالة أنباء (مهر) الإيرانية شبه الرسمية، في العام 2008، على الشيخ القرضاوي الذي يذهب إلى حدّ القول "إنه لا إمكانية للتلاقي بين السنة والشيعة". وردّ عليهم بالمناسبة أن بعض غلاتهم يسبّون الصحابة على منابرهم.

نقلت كارولين كامل، في رواية "فيكتوريا"، مشاهدات البطلة كطفلة قبطيّة تعرّضت للتمييز في مجتمع مسلم، مع تحذير الكاتبة أنها رواية خياليّة؛ والأرجح أنها فعلت ذلك تحسبّاً للرقابة. ممّا تنقله أنّها كانت تسمع من نافذة صفّها أحد رجال الدين، يُنهي خطبة الجمعة بالدعوات على اليهود والنصارى، أحفاد القردة والخنازير، ويدعو بأن يصيبهم البلاء وتترمل نساؤهن وو...

لا شكّ في أن هذا موقف بعض رجال الدين المتعصّبين، خصوصاً بعد اجتياح الإسلام السياسيّ للساحة. لكن هذا يتطلّب تدخّل الدولة لمنع هذا النوع من التحريض المرفوض في عصر الذكاء الاصطناعي.

لكن التمييز يطال الأقباط على مستويات أخرى لم تعالجها الدولة بقوانينها المفترض أن تكون منصفة. ففي نفس الرواية تشكو التلميذة من أن عُطَل الأعياد المسيحية تقتصر على يوم واحد، بينما أعياد المسلمين تمتدّ لعدّة أيّام. ويطال التمييز الترقية في الوظيفة، التي تتأخّر أيضاً بالنسبة إلى المسيحيين.

ونعلم أن الأقباط يشكّلون نحو 15 في المئة من الشعب المصري، أي 18 مليوناً، ولا تعكس بنية الدولة والنظام والسلطة والمجتمع هذا الواقع. ونموذج بطرس غالي لا يُغني من جوع.

إن اضطهاد الآخر المختلف في المجتمعات العربية لا يحتاج إلى برهان. ولقد أثير موضوع اليد العاملة الأجنبية كثيراً بمناسبة المونديال في قطر، وما زلنا نذكر تفجير الكنائس في مصر، ورمي النساء غير المحجّبات بماء النار، وأسلمة المسيحيات، وإعدام الخنازير بحماس عندما أشيع خبر فيروس يُصيبهم. أمّا ممارسات داعش و"دولة الخلافة الإسلامية" ضدّ الأقليات من كلّ نوع، وباسم الدين، وبذريعة بعض الآيات، فلا تزال تتردّد أصداؤها حتى الآن.

ربما هذا ما حفّز انعقاد مؤتمر دعت إليه وزارة الأوقاف المغربيّة ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وعنوانه: «حقوق الأقليات الدينيّة في المجتمعات الإسلامية»، في مدينة مراكش في العام 2016، وأصدر اعلان مراكش الشهير، الذي دعا إلى المساواة بين جميع البشر بغضّ النظر عن الدين، باعتبار "أن الخالق كرّم الإنسان ومنحه حرية الاختيار، وأن كلّ بني البشر، مع كلّ الفوارق بينهم، هم إخوة في الإنسانية".

وهذه خطوة جيّدة لكنها غير كافية. فمن الانتقادات التي وجّهت لها أنّها تعتبر أن "صحيفة المدينة " هي الأساس المرجعيّ المبدئيّ لضمان حقوق الأقليات، ممّا يطرح مشكلتين: الأولى أنها وثيقة منسيّة، تم تغييبها كليّاً على المستوى التشريعي خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، واستبدلت بما سمّي بـ"أحكام أهل الذمة" عند فقهاء الشريعة؛ وهي أحكام تقوم على مفهوم الغلبة والقوة، وليس على مفهوم العيش المشترك، أو معنى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. أمّا المشكلة الثانية فهي أنّها تستعمل مفاهيم وأوصاف لا يمكن اعتمادها اليوم في إطار المواطنة، مثل "المشرك" و"الكافر"...

إن فكرتنا عن أنفسنا أننا متسامحون، لأن الدين الاسلامي كان سمِحاً تاريخيّاً وقَبِل الديانات والأعراق الأخرى، وتعايش معها بسهولة، كأهل ذمّة وفي مقابل الجزية، لم تعد كافية. كان هذا التسامح أمراً متقدّماً في الأزمنة القديمة، لكنّه لم يعد يُناسب المعايير الحديثة.

التسامح يُشير إلى وجود موازين قوى غير متعادلة؛ هناك طرف أقوى من الآخر، يتلطف ويتسامح مع الآخر فيتنازل ويقبله!

لم يبدأ الكلام عن التسامح إلا لأنّ الحقّ بالاختلاف لم يكن معترفاً به تاريخياً، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدين. فالتسامح يعني التعاطف مع معتقدات أو ممارسات يعتقد المرء أنّها خاطئة. وفكرة التسامح مع المسيحيّ تُشير مباشرة إلى كونه مقبولاً في المجتمع الإسلامي الواسع "كذّمي". يمنح القبول كهبة في عالم، كان بالتحديد، مهد المسيحية التي سبقت الإسلام زمنياً.

هذا لا يعني القبول بالرأي الشائع الذي يتّهم الإسلام بالظلامية والاستبداد وعدم قابليته للتطور، لأن ممارسات التعصب وقمع الآخر المختلف لا تقتصر على المجتمعات العربية أو الإسلامية. وعلى رأي أمين معلوف، علّمنا القرن العشرين عدم وجود آية عقيدة تحرريّة حكماً في ذاتها. فكلّ العقائد يمكن أن تنحرف، وكلّها يُمكن أن تكون مضلّلة، وكلّها تلطخت أيديها بالدماء. من الشيوعية إلى الليبرالية إلى القومية وإلى كل الديانات الكبرى وحتى العلمانية. فلا أحد يحتكر التعصب كما لا أحد يحتكر البعد الإنساني.

موضوع الأقليات أصبح يتطلّب المصارحة والمعالجة الجدية من دون مواربة. وموجة إظهار الاختلاف ليست صدفة، لأنها طريقة للاندماج في العالم عن طريق التمايز بدل الانسحاب والانزواء الذي يعبّر عن تكيّف أقلّ. يُمكننا الآن اعتبار العودة المكثفة إلى الرموز والإشارات والطقوس كنوع من الدفاع عن الذات الثقافية عبر "تمييزها". لكن ذلك يطرح في المقابل مشكلة التمييز السلبيّ، ويطرح مشكلة الآخر وعلاقته بـ"الأنا" والـ"نحن" والـ"ما بيننا".

وكيلا تعتبر هذه الرموز دليلاً على شوفينيّة أو طائفية، يدعمها الخوف من "الآخر" المعتبر كمهَدِّد داخليّ للنظام الاجتماعي، علينا الاعتراف بهذا الآخر/الآخرين.

وللاعتراف شكلان: الاعتراف كمختلفين عن الآخرين بوساطة التمايز بين مجموعات متباينة. والاعتراف كشبيهين لهم بوساطة الامتثال، ضمن مجموعة متجانسة. وهما مستويان يمكن تعايشهما من دون تنازع، عندما نعيش في دولة قانون، نظامها ديموقراطي تعددي، وتحمي حرّية التعبير كمسألة جوهرية، نأمل أن ينجح لبنان في بلوغه يوماً.

حرية التعبير هي حرية اختيار طريقة العيش أو الاعتقاد التي تروق لنا، وهي تشمل التعبير عن آراء قد لا تروق للآخرين بل ربما تنطوي على إمكان أن تثير غضبهم وحنقهم كما قد يثير الآخرون غضبنا وحنقنا.

لكن هذا هو جوهرها الحقيقي. حرية التعبير ليست إرضاء أو تعزية لأحد، بل تحدياً وتحريضاً. هذا ما يتحتم على جميع الأوساط في دولنا أن تدركه وتتعلم التكيّف معه.

ملاحظة أخيرة:

كما يستفزنا تعامل الأكثرية مع الأقليات بفوقية والتصرف كأنهم غير موجودين؛ تستفزنا أيضاً تجارب الأقليات التي اضطهدت الأكثرية كتجربة نظامَي البعث في العراق وسوريا؛ ويستفزنا الثنائي الشيعي في محاولة فرضه لرئيس، كما يستفزنا سلوك ورثة المارونية السياسية بتبنّيهم وتكرارهم لمقولة إن البلد صنع من أجلهم أو أنهم أوجدوه! وما يهمّهم مركز الرئاسة المارونية وليس مصير لبنان الوجودي.

السؤال: كيف يمكن التوفيق بين فكرة لبنان الموجود منذ آلاف السنين، ولبنان الموجود فقط لأبناء مار مارون؟

نريد أوطاناً تتّسع لجميع مواطنيها، من دون فضل من أحد على أحد، فيها مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات في دولة ديوقراطية تقبل جيع أبنائها من دون تمييز.

يبدو أنه مطلب مستحيل في هذه الرقعة من الأرض!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم