السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

هدم أهراءات بيروت... جريمة وخيانة

المصدر: "النهار"
منى فياض
أهراءات مرفأ بيروت (مارك فيّاض).
أهراءات مرفأ بيروت (مارك فيّاض).
A+ A-
ما غادرتنا الحرب يوماً. "الحرب مسرح حياتنا" في لبنان، على ما كتب لقمان سليم في ديوان الذاكرة. فالذاكرة اللبنانيّة "حمّالة الحروب"، عنوان مشروع أمم للأبحاث.
 
إنّها أزمنة آلام لبنانيّة متناسلة، تتمدّد متعاقبة دون نهاية. خلق الله الكون في ستّة أيام واستراح في اليوم السابع؛ لكنّ من يتحكّمون بلبنان لا يتعبون ولا يرتاحون من خلق المشاكل والمعاناة والمآسي له وللبنانيّين. كالثعابين يغيّرون جلودهم كي يستمرّوا في استحواذهم على السلطة.
 
يتعاملون مع اللبنانيّين كمرضى ألزهايمر، وربما هم كذلك. ربما ذاكرات اللبنانيين مختلّة لتعدّدها وتعارضها. ما يجعلهم محكومين بآلية التكرار. التكرار الذي يغذيه إغفالهم لتجاربهم وتاريخهم وذاكرتهم الجماعيّة. كأنّهم يمحونها، لثقلها. يقومون كلّ مرّة بعمل delete ثمّ Re-formatting.
 
وتكون النتيجة الطبيعيّة لعدم حفظ الذاكرة، التعايش مع الحروب والتفجيرات والاغتيالات والفضائح والمآسي. يتعرّضون للرضّات trauma الواحدة تلو الأخرى، بحيث يشكّ المرء بأنّهم حقّاً أحياء!! كأنّهم غائبون عن الوعي، توقظهم الصدمة لبرهة قبل أن يغرقوا بموتهم من جديد. فاللحم الميت ينتفض بالأسيد، وهو ميت. فلا تغرّنَّ السجالات والخطب والتفاسير والتأويلات التي ينهمكون فيها إثر كلّ صدمة، إذ ليست سوى لغوٍ لملء أوقاتهم في انتظار كرْب وصدمة جديدين.
 
مرّة أخرى تكون طرابلس مركز الحدث المُمِضّ الذي يلخّص وضع اللبنانيين المخيّرين بين غرقين: بطيء على اليابسة أو سريع في البحر، الذي رموا أنفسهم فيه قرفاً ويأساً وهرباً من سلطة سياسيّة تلاحقهم برّاً وبحراً لنهب أموالهم وحيواتهم. "إمّا نحن وإمّا هم"، أو "نموت نحن أو يموتون هم"، صرّح الناجي من الغرق الذي فقد زوجته وأطفاله.
 
ماذا ستأمل المدينة المفجوعة؟ تحقيقاً شفّافاً ومحاسبة المسؤولين؟ في الوقت الذي يُمنع فيه التحقيق بجريمة العصر لأكبر انفجار غير نوويّ عرفه التاريخ؟
 
تناقلت وسائل الإعلام ما كتبه جاد تابت على صفحته عن آثار بيروت بمناسبة قرار هدم الأهراءات: "يمكن اختصار تاريخ بيروت الحديث بأنّه تاريخ دمار يعيد نفسه باستمرار، ويؤسّس عبر تكراره لشروط دمار جديد. في هذا السياق الشبيه بالتراجيديا الإغريقيّة تندرج الفاجعة التي أصابت المدينة نتيجة انفجار المرفأ في الرابع من آب".
 
ارتأى المؤرّخ الألمانيّ تيودور هانف في دراسته عن الحرب اللبنانيّة أنّ "خلفيّة أحداث العنف والنزاع تكمن في عامل الخوف الذي يشعر به كلّ طرف في لبنان. تقاسم اللبنانيّون الحكم قبل 1975 بنوع من التفاهم والوئام". لكنّهم تخلّوا عن الحياد فجأة وتحمّلوا بمفردهم عبء تحرير فلسطين. فاختلّ التوازن وتحاربوا بضراوة "خوفاً من أن يُبْعَد أحدهم عن مكانه، ويهجّر من أرضه، أو يعيش في مخيّمات اللاجئين أو يهاجر أو يصفّى جسديّاً، يضاف الخوف من تهديد هويّته وجعله الخاسر النهائيّ. وتحوّل الرعب ظاهرة يوميّة". ولا نزال ندور حتّى الآن في نفس الدوامة. في الحكم سلطة تمثّل طرفاً يهيمن، بقوّة السلاح، بتواطؤ الفساد. ولخوفهم من فقدان السلطة يقضون على كلّ ما يمكن أن يهدّدها.
 
السلطة السياسيّة، المطعون في شرعيّتها، تواصل اتّخاذ القرارات القاتلة دون أيّ رادع أو اهتمام بالرأي العام اللبنانيّ أو بضحايا المرفأ وأهاليهم. وقبل هذا وذاك دون الأخذ بعين الاعتبار آراء المتخصّصين كنقابة المهندسين والخبراء المتنوّعين والاكتفاء برأي خبير واحد، على ما وسّعته زيزي أسطفان في مقالها "كأنّه مَسْح لمسرح الجريمة وطَمْس لذاكرة المدينة"، في الرأي الكويتيّة، عن تعسّف قرار الحكومة ومخالفاتها.
 
إذا نظرنا عن كثب، نجد أنّ وظيفة جريمة هدم أهراءات بيروت، لا تكمن فقط في القضاء على المبنى، الذي هو مكان الذاكرة، ولكن في القضاء على القوّة الرمزيّة التي تجعله شعاراً ومحرّكاً للقضيّة الوطنيّة. إنّه تكرار الجريمة للتأكّد من موت القتيل.
 
أطلق المؤرّخ بيار نورا مشروعاً تاريخيّاً ضخماً تحت عنوان "أماكن الذاكرة"، يهدف إلى ربط فكرة الذاكرة بالمكان من أجل إصلاح وترتيب الخطاب التاريخيّ.
 
يذكّرنا المؤرّخون بأهميّة واجب الذاكرة (Devoir de mémoire)، في ما يتعلّق بالماضي الهمجيّ الذي مررنا به. يخدم الحفاظ على الذاكرة تذكّر الماضي لعدم نسيانه، كي نظلّ على يقظة وأن نكون قادرين على اكتشاف ما يمكن أن يكون في حاضرنا تكراراً شرّيراً للماضي. إنّ أهميّة المعرفة التاريخيّة مساعدتها على فهم الحاضر للسيطرة على مصاعبه.
 
فأماكن الذاكرة، بالنسبة إلى الأمور التي تشكّل تقليداً وطنيّاً بشكل عام، تسعى إلى استعادة إجراءات إنتاجها والأحداث التي رافقتها. بالنسبة لبيار نورا، إنّها نوع من التصوير الشعاعيّ للأشياء. إنّ حقيقة تشكيلها كأماكن للذاكرة تجعلها قادرة أن تقول شيئاً آخر من غير الممكن التعبير عنه لولا رمزيّة وجودها والاحتفاء الدوريّ بها.
 
لذلك يمكن تعريف مكان الذاكرة، وفقاً لنورا، على النحو الآتي: "وحدة مهمّة، من نظام ماديّ أو مثاليّ، تجعل إرادة البشر، أو عمل الزمن، عنصراً رمزيّاً للتراث التذكاريّ لأيّ مجتمع".
 
إنّها عناصر تلعب دوراً في تكوين الهويّة الجماعيّة من خلال استعادتها، من قبل جهات فاعلة مختلفة: كالعلم والنشيد الوطنيّ.
 
بالإضافة الى الذاكرة، هناك التذكّر. التذكّر كاستحضار ذهنيّ للذكرى. أرسطو يرى أنّنا نتذكّر بمعزل عن الأشياء. ذكرى الشيء ليس معطى بديهيّاً على الدوام. يجب البحث عن الذكرى واستحضارها وإعادة تنظيمها. وهذا ما يأخذنا للبحث عن وثيقة أو شاهد. نوع من مخلّفات أو مؤشّرات مادّية أو رموز معيّنة. لأنّه من غير الممكن أن نعيش مجدّداً السنوات أو الأحداث التي انقضت. من غير الممكن سوى أن نفكّر فيها على مستوى الوقت المجرّد الفاقد لكلّ سماكة.
 
من هنا أهميّة ربط الذاكرة بالفضاء. على الذاكرة التموضع في أمكنة، وفي تمثّلات أمكنة أو خطابات عن الأمكنة. فقط بواسطة الأمكنة يمكن أن نخزّن عن قصد مجموعة ذكريات تشكّل ذاكرة أمّة أو وطن أو عائلة أو إتنيّة، كي تستعاد كجزء أساسيّ من شخصيّتها. وهنا نجد المواقع الطوبوغرافيّة والخزائن والأرشيف والمتاحف والمكتبات والمواقع الأثريّة كالمقابر والمعمار. مواقع رمزيّة لمراسم الحجّ وللاحتفالات والمزارات والأعياد والشارات.
 
وهذه الطقوس سواء السياسيّة أو الرمزيّة، تهدف إلى إظهار الشعور بالانتماء الجماعيّ ولها وظيفة تعزيزه، عن طريق التكرار، واستخدام رموز معيّنة وروابط توحّد مجموعة اجتماعيّة، كالأمّة على سبيل المثال، بمفهوم معيّن عن العالم ورؤية مبنيّة على ماض مشترك من أجل بناء مستقبل مشترك.
 
يعتبر هانف في خلاصة دراسته، أنّ اللبنانيين من مختلف الطوائف على استعداد لمساعدة بعضهم بعضاً في حالات الشدّة والضيق، ويقدّم نماذج يصفها بـ"الرائعة" عن عيش اللبنانيين معاً وإرادتهم القويّة للعمل على وحدة بلادهم أكثر ممّا يمكن تصوّره. وردّة فعل اللبنانيين على جريمة المرفأ أكبر شاهد على ذلك، بحيث تظهّر مفهوم "Social love" الجديد في علم الاجتماع على أكمل جه.
 
يكتب هانف أنّ اللبنانيين لا يشكّلون مجتمعاً من زمرة من الذئاب تقف بالمرصاد للطائفة الأخرى. كما لا توجد جماهير متعصّبة ومتزمّتة لتحول دون قيام توافق جديد؛ بل يوجد فريق متعطّش إلى السلطة وقصير النظر. والأصحّ، برأيه، أنّ روح التوافق متأصّلة بعمق في نفوس اللبنانيّين كما كشفت له تحقيقاته، وأنّ "كارتل" الذئاب من الزعماء المرتزقة وأسياد الحرب والمروّضين غير اللبنانيين يهوشون "ذئابهم" على بعضهم بعضاً.
 
جريمة هدم الأهراءات ليست قضيّة أهالي الضحايا فقط. إنّها قضيّتنا جميعاً. امنعوا هدمها.
 
نُشر في موقع "الحرّة".
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم