الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الضبابية التي تخيّم على القيمة الاقتصادية للودائع، أسبابها ومن المسؤول؟

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد

أصبح لبنان في الـ 2020 على انكماش اقتصادي حاد وسريع، ولكنه نام عشية سنة الـ 2018 على اقتصاد ينعم بناتج قومي يلامس الـ 60 مليار دولار أميركي وقطاع مصرفي يتحصن وراء ما يقارب الـ 170 مليار دولار أميركي من الودائع، بين مقيم وغير مقيم، ولهذا السبب كنا نجد أسعاراً خيالية لبعض الموجودات (assets) داخل البلد، وأكبر دليل على ذلك هو أسعار العقارات (Real Estate)، ونسبة الفوائد التي كانت تُدفع على الودائع لأجل (Time Deposits) بالعملة الأجنبية. لم يتوقف المودع أو يلفت نظره أن الفارق بين الفوائد على الدولار خارج لبنان وداخله لا يدفع إلى الاطمئنان!

وفي المقلب الآخر، ولأن لبنان كان ينعم بسيولة مصرفية تفوق ضعفي الناتج القومي، لم تكن السلطة السياسية الحاكمة تأبه أو تهتم لممارسة الحيطة والحذر والحوكمة في إدارة المال العام، لأن مصرف لبنان وفّر لها ما اشتهت وأكثر! لهذا السبب ساد الفساد وتفشى الهدر في كل الاتجاهات، وانتعشت مكونات الطبقة السياسية الحاكمة على حساب ما تيسر لها من تمويل من مجمع السيولة في القطاع المصرفي، أي أموال المودعين. وهنا السؤال الأهم: من يَسَّر هذا الكم من التمويل لهذه السلطة السياسية التي لم تتردد أبداً في ممارسة فسادها؟
1. التمويل جاء من أموال المودعين الذين هم أصحاب القرار لجهة توظيف ما تيسّر لهم من رأس مال في مشاريع استثمارية، أو وضعهم بأمانة المصرفيين! اختار المودع المصرف.
2. المؤتمن على هذه الأموال هي المصارف التجارية العاملة في لبنان التي قبلت، وبموجب عقود قانونية، أن تتحمل تداعيات قراراتها لجهة كيفية توظيف أموال المودعين بأمان وسلام. مخاطر توظيف أموال المودعين هي مسؤولية من اتخذ هذا القرار.
3. تعمل المصارف بإذن (رخصة) من مصرف لبنان المركزي وتحت رقابته، وفق قانون النقد والتسليف. يتوجب على المركزي الحفاظ على سلامة القطاع المصرفي وأموال المودعين والنقد الوطني والاستقرار النقدي. ويجب لفت النظر إلى أن قرارات السلطة النقدية هي قرارات المجلس المركزي لمصرف لبنان وليست قرارات حاكم المركزي. وتتمثل السلطة السياسية داخل المجلس المركزي بمدير عام وزارة التجارة والاقتصاد ومدير عام وزارة المال. من الخطأ أن يكون تسديد مصرف لبنان لالتزماته تجاه المصارف موضوع نقاش أو حوار بين مكونات السلطة السياسية، المسؤول الأكبر عن إعادة رسملة المركزي، إنه التزام غير قابل للنقاش.
4. يعمل مصرف لبنان تحت مظلة السلطة السياسية الحاكمة التي تُعيّن كل أعضائه من حاكم للمصرف المركزي ونوابه، وأعضاء ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، وأمين عام هيئة التحقيق الخاصة، وأعضاء هيئة مراقبة الأسواق المالية. والتصرف المسؤول أن يتم اختيار هؤلاء بتأنٍّ وشفافية وموضوعية لضمان سلامة القطاع المالي والاستقرار النقدي. ولكن حرصت السلطة السياسية على إخضاع هذه التعيينات الحساسة إلى الزبائنية السياسية، وغياب الحوكمة كان إحدى نتائج هذا الأداء السياسي.

لم يتردد المواطن بتمويل الدولة بعجزها وفشلها في إنتاج موازنة متوازنة بين إيراداتها ونفقاتها، ولكن تمنعت الدولة عن إنقاذ المواطن عندما وقعت الواقعة وانهار الاقتصاد وتعثرت المصارف عن الامتثال لطلبات المودعين للسحوبات والتحويل من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية. السلطة السياسية هي الجهة التي كانت تُقر قوانين الموازنات العاجزة إلى قوانين الإفراط في الاستادنة بكل الوسائل التي وفرها لها المصرف المركزي؛ وهي الجهة التي كانت توزع الإعفاءات والامتيازات الضريبية لتعزيز الزبائنية السياسية؛ وهي السلطة التي كانت تفرط بالتوظيف العشوائي لتوزيع الرشوات الانتخابية؛ وأخيراً هي السلطة السياسية التي انتخبناها، نحن المودعين والمواطنين، مراراً وتكراراً وجعلناها مؤتمنة ولسنوات على ثروات الوطن رغم إخفاقاتها المتكررة.

بعد هذا العرض، نعود ونطرح السؤال: من كان وراء الإفراط في تأمين تمويل الفساد في لبنان؟
توجيه أصابع الاتهام بالسياسة سهل ولكنه لا يُجدي نفعاً، ومن الصعب القبول به، لأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في سنة الـ 2022، أثبتت أن التُهم التي كانت توجه إلى السياسيين في الشارع لم تُتَرجَم في صناديق الاقتراع وحافظت السلطة الفاسدة على 90% من أعضاء المجلس النيابي، وهذا يُتَرجِم ضرورة تحميلها 90% من المسؤولية عن قرارات الدولة، سواء جاءت من السلطة التشريعية أو التنفيذية (وهم وجهان لعملة واحدة). أما تأكيد التهمة بالوقائع فهو مستحيل حتى الآن بسبب استمرار هذه السلطة في السيطرة على كل مرافق الدولة وتوظيف سلطتها لإقفال أبواب المساءلة والمحاسبة عنها.

وما العمل؟!
نستطيع محاولة فهم الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي بموضوعية، وتقبل ما ليس لنا قدرة على تغييره والتأقلم معه، والعمل على تغيير ما استطاعت أيدينا. هذا لا يعني أبداً الاستسلام أو/و التخلي عن الحقوق والتهرب من المسؤولية.

بعد الانتفاضة العفوية في تشرين 2019 وما تسببت به من إرباك وارتباك على جميع الأصعدة، من الإنتاج في القطاع الخاص إلى الحكم في القطاع العام، جاء التعثر غير المنظم في آذار 2020 ليقضي على ما تبقى من أمل في إنقاذ القطاع المالي اللبناني.
 
لم تهدأ الأمور عند هذا الحد، واستمرت الأزمات بتسجيل نقاط في حربها ضد لبنان وتفاقمت الأمور بسبب جائحة كورونا؛ وكانت الحرب الروسية على أوكرانيا بمثابة الضربة القاضية على ما تبقى من الاقتصاد الوطني، لأنها حولت اهتمامنا بتغيير النظام إلى همومنا لتأمين الغذاء. هذا الكم من الأزمات في ظل سلطة أهم إنجازاتها الفساد والهدر، تسبب بانكماش اقتصادي حاد وسريع وتدنٍّ ملحوظ بالقيمة الاقتصادية الحقيقية للموجودات في ربوع الوطن: انخفضت قيمة الموجودات كلها التي كنا قد اشتريناها بأموالنا بتمويل مباشر أو من خلال قروض من المصارف.
 
توقف الطلب على العقارات، وسارع المواطنون إلى التخلي عن موجوداتهم في المصارف التجارية من خلال المطالبة بها (بسحبها) بأي ثمن، وتوقفت المصارف عن الإقراض وعن دفع الفوائد على الودائع لأجل ورفضت تأمين السحوبات من هذه الحسابات المصرفية. هذا يعني فقدان هذه الموجودات لجزء كبير من قيمتها الاقتصادية الذي كان واضحاً في العرض والطلب والضبابية المدمرة التي واكبت هذا التبادل. الأزمات وما واكبها من ضياع جعل من المستحيل تحديد القيمة الاقتصادية الحقيقية لهذه الموجودات (ودائع الناس)، ودفع بالمصارف إلى انتظار سلطة رسمية (مصرف لبنان أو السلطة التشريعية) لتحديد هذه القيمة لأنها لم تعد تخضع إلى ديناميكية العرض والطلب والتبادل الحر والتعاقد الطبيعي! عجزت السلطة التشريعية عن إحداث أي تغيير في هذا الواقع رغم أهميتها لجهة تمويل الاستهلاك والمصاريف التشغيلية للمؤسسات، وسارع مصرف لبنان إلى انتشالها من فشلها، وبادر إلى إقرار التعميم تلو الآخر للمساعدة في تحديد القيمة الاقتصادية للودائع المصرفية التي كان يخيم عليها الكم الأكبر من الضبابية:
• التعميم الأساسي 150 جاء لينتج فصيلة جديدة من الودائع أطلق عليه إسم "وديعة فريش"، وأكد على تحرير هذه الوديعة من كل القيود ويتوحب توفرها لصاحبها غب الطلب شرط أن تكون قد تكونت بعد 9 نيسان 2020 ومن جراء إيداعات نقدية و/أو تحويل من الخارج. هذه الفصيلة الجديدة من الودائع أحدثت حالة من الذوبان الفوري للودائع المكونة بـ"الدولار المقيم" وبات من الضروري تحديد قيمتها الاقتصادية بوضوح.
• التعميم الأساسي 151 أصبح ضرورياً ولا مهرب منه بعد أن فرض المركزي على المصارف التعامل بالـ"حسابات الفريش". حدد المجلس المركزي لمصرف لبنان، وليس السلطة التشريعية، بموجب هذا التعميم القيمة الاقتصادية لبعض الودائع من خلال تحديد سعر صرف للدولار الموجود في هذه الحسابات المصرفية، ويعمل بهذا السعر فقط عند طلب السحب من الحسابات التي تستوفي الشروط، وضمن سقف للسحب يحدده المصرف من دون الأخذ بالاعتبار رصيد الحساب أو طبيعة النشاط الاقتصادي التي سوف تُستعمل السحوبات لتمويله - استهلاكاً أو استثماراً. وبقيت القيمة الاقتصادية لهذه الودائع، أو حتى السحوبات منها، غير واضحة بسبب الاستنسابية التي مارستها المصارف من خلال الامتثال لأحكام هذا التعميم، ولأن السحوبات تخضع لعدد من الضوابط من دون تحديد الأسباب الموجبة لهذه الضوابط.
• التعميم 158 أنتج أيضاً آلية جديدة، وتختلف عن سابقتها (آلية الـ 151)، لتأمين السحوبات الاستثنائية من مجموعة أخرى من الحسابات المصرفية المكونة بالعملة الأجنبية.

هذه الموجودات، الودائع المصرفية باختلاف أنواعها – فصيلة الـ150 وفصيلة الـ151 وفصيلة الـ158، تدنت قيمتها الاقتصادية لأسباب عديدة وبنسب مختلفة، وتوجب إعادة التقييم عند السحب وتتعذر الإجابة عن هذه القيمة إذا كان السؤال تحديد القيمة الاقتصادية لرصيد الحساب بالكامل! هذا كان نتيجة قرار اتخذته السلطة النقدية متحصنة بقانون النقد والتسليف وضاربة بعرض الحائط قانون الموجبات والعقود والدستور اللبناني!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم