الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن تعاميم الحاكم... قائد الأوركسترا

المصدر: "النهار"
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
A+ A-
محمد فحيلي، خبير مخاطر مصرفية وباحث في الاقتصاد


عندما يُطلب من المراقبين والمحلّلين الحديث عن الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان سرعان ما يتناسون التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، والحرب بين روسيا وأوكرانيا وما تسبّبت به من اضطرابات في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، ويحمّلون طباعة العملة لتمويل المصاريف التشغيلية للدولة مسؤوليّة التضخم والضغوطات التضخميّة المتواصلة في الاقتصاد الوطني... ولكن الحقيقة هي غير ذلك كلياً.

منصّة صيرفة هي من أهمّ الأدوات بأيدي السلطة النقدية، وهي الأكثر تأثيراً في الاقتصاد لإدارة سعر صرف الدولار والحدّ من الضغوطات التضخميّة. المنصّة، حتى هذه اللحظة، مخصّصة لعرض (لبيع) الدولار بسعر مدعوم من قبل مصرف لبنان وليست منصة للتداول الحرّ (عرض وطلب من دون قيود)؛ والحديث عن هذه المنصة لجهة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وتداعياتها التضخمية، والكتلة النقدية بالدولار الفريش، وأن لبنان لا يزال غارقاً بأزماته من دون أفق والآتي أعظم، كلّ ذلك يستند إلى معطيات غير دقيقة ويعتمد أسلوب الترغيب والترهيب من دون أي موضوعية.

يعلم الجميع بأنّ فشل السلطة السياسية الحاكمة بإقرار الإصلاحات وتنفيذها، وإعطاء مصرف لبنان الوكالة الحصرية في إدارة الأزمة والاقتصاد قد يكون ساعد على منع الانزلاق الحادّ والعميق في تداعيات الأزمة، ولكنه لن ينقذ الاقتصاد الوطنيّ ويدفعه باتّجاه التعافي والنمو، فيما تغيب عن الساحة الوطنية الحلول المستدامة. محطات عدّة مرّت على لبنان، وكان لكل واحدة منها تداعياتها على الاقتصاد الوطني بكلّ تفاصيله، وهي التي أسّست لهذه المرحلة التي نعيشها اليوم:
1 - تشرين الثاني 2019، انطلاقة الانتفاضة الشعبية العفوية دفعت المصارف إلى الإقفال بحجة تعذّر وصول الموظفين إلى أماكن العمل بسبب التظاهرات والاحتجاجات على معظم الطرقات. شكّل هذا الإقفال المفاجئ صدمة سلبية على الاقتصاد المحلي على محورين أساسين: التدنّي الحادّ والسريع في الاستهلاك والإنتاج بسبب عدم قدرة المواطن على الوصول إلى أمواله، وكان "رصاصة الرحمة" على الثقة بين المصارف والمودعين في ظلّ غياب كامل للرقابة على أداء المصارف.

2 - آذار 2020، التعثر غير المنظّم. استمرّت الانتفاضة وانتشرت على معظم الأراضي اللبنانية، وواكبت ذلك أعمال شغب ضد المصارف والمصرفيين، وارتفعت الأصوات مطالبة السلطة التنفيذية بعدم سداد استحقاق آذار لسندات اليورو بوند ظناً منهم بأن هذه الأموال سوف تبقى لكلّ البنانيين في حال عدم دفعها للخارج، ولا أحد تكلّم عمّا قد يحدث للقطاع المالي الوطني عند التعثر. هذا القرار السياسيّ البحت بالتوقف نهائياً عن خدمة الدين العام (في الجزء المكوّن بالعملة الأجنبية، وهو الأهمّ) ولأول مرة في تاريخ لبنان كان انتكاسة:
• مالية: أخرج لبنان من الأسواق المالية العالمية.
• مصرفية: تدنٍّ حادّ ومفاجىء في التصنيف الائتماني للبنان، ممّا دفع المصارف المراسلة إلى إعادة النظر بقواعد الاشتباك بينها وبين المصارف اللبنانية، وتسبّب ذلك باختناق في تمويل التجارة الخارجية (ما يقارب 25 مليار دولار بين استيراد وتصدير)، إضافة إلى تجميد التحاويل إلى الداخل اللبناني.
• نقديّة: بسبب فقدان الثقة في النظام الذي يدعم العملة الوطنية، وبما أن الاقتصاد اللبناني كان مدولراً (أي يعتمد في الجزء الأكبر منه على الدولار في التداول)، كان من السهل جداً نبذ العملة الوطنية لصالح البديل الأقوى. والقيود والضوابط التي وضعتها المصارف، والتوقّف التام عن اعتماد وسائل الدفع المتاحة من المصارف فاقم من حدة الأزمة النقدية لجهة فقدان الثقة في العملة الوطنية والنظام المصرفي.

3 - نيسان 2020: تحرك السلطة النقدية لإنقاذ النظام المصرفي. في 9 نيسان 2020 صدر عن مصرف لبنان التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 150 الذي بموجبه أسس لفتح حسابات بالدولار الفريش محرّرة من كلّ القيود، بشرط أن تكون الأموال مصدرها تحاويل من الخارج و/أو إيداعات نقديّة. هذا التعميم كان بمثابة حكم بالإعدام على كلّ الحسابات المكونة (والموجودة) بالعملة الأجنبية قبل إصدار هذا التعميم، وفقدت هذه الحسابات قيمتها الاقتصادية الحقيقية (خصوصاً أن وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي كانت قد توقفت بمعظمها) في ظل ظروف غامضة وغياب تام للرقابة من قبل السلطات المختصة. التعميم 150 أحدث صدمة في القطاع المصرفي، وجمّد تعامل المصارف مع أصحاب الودائع بالعملة الأجنبية، وارتفع منسوب انعدام الثقة بين الطرفين. سارع مصرف لبنان بعدها لإنقاذ هذه الودائع، وأصدر التعميم الأساسي ذا الرقم 151 الذي وضع آلية للسحوبات الاستثنائية من الحسابات بالعملة الأجنبية المكوّنة قبل نيسان 2020، وحدّد قيمة الوديعة بالعملة الوطنية على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد، وترك المركزيّ لكلّ مصرف تحديد سقوف السحب اليومية والأسبوعية والشهرية لكلّ مودع وليس لكلّ حساب.

بالرغم من سلبيات هذه التعاميم (150 و151)، فإنّها كانت ذات تأثيرات إيجابيّة عديدة:
• عودة الدماء إلى عروق القطاع المصرفي من خلال الحسابات الفريش، وتنشيط التحاويل من وإلى خارج لبنان، بعد أن توقفت نهائياً بعد التعثر غير المنظّم عن سداد استحقاق اليوروبوند.

• أسّس التعميم 151 لقواعد اشتباك جديدة بين المصارف والمودعين سهلت ووفّرت الوصول إلى أرصدة الحسابات المصرفية التي كان أصحابها قد فقدوا الأمل في الوصول إليها، ومكّنتهم من توظيفها في تمويل فواتير الاستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيليّة (من رواتب وأجور وغيرها) للمؤسّسات.
• السماح للمؤسّسات باستعمال أرصدتها لدفع الرواتب والأجور ساعد جداً على التخفيف من أعباء هذه المصاريف التشغيلية؛ وسياسة مصرف لبنان أعطت دعماً معيشيّاً إضافياً للمستفيدين. لفهم تداعيات التعميم 151 دعنا نعطي مثلاً:
إذا كان راتب الموظف في القطاع الخاصّ آنذاك ألف دولار أميركي، وكان يصرف بالليرة اللبنانية بقيمة 1،500،000 ليرة. بعد الانتكاسة، وبسبب التعميم 151، أصبح من الأسهل دفعه بالدولار في الحسابات المصرفية (المعروف حالياً باللولار) بقيمته الأصليّة، أي ألف دولار مقيم (لولار). بهذا يكون صاحب المؤسّسة مستفيداً، فقد سُمِح له باستعمال أرصدة حساباته في المصارف؛ وأصبح راتب الأجير بالليرة اللبنانية 3،900،000 ليرة عوضاً عن 1،500،000 الذي كان يتقاضاها قبل التعميم. وعندما تعدّل سعر دولار السحوبات الاستثنائية وأصبح 8،000 ليرة، ارتفع الراتب الشهري للأجير إلى 8 ملايين ليرة من دون أيّ تكلفة إضافية؛ لا على الأجير لأن ضريبة الدخل بقيت على سعر صرف 1،500 ليرة، ولا على صاحب المؤسسة لأن اشتراكات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يجب أن تتناغم مع احتساب الضريبة على الدخل.

هذا المتنفّس ساهم بمساعدة المستهلك ومؤسّسات القطاع الخاصّ على الصمود في وجه الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ولكنه جاء على حساب القطاع العام لأنّ إيرادات القطاع الخاصّ كانت تواكب سعر صرف الدولار في السوق الموازية، فيما إيرادات القطاع العام (من ضرائب ورسوم) بقيت على سعر الصرف الرسمي، أي 1،500 ليرة للدولار الواحد.

4 - تعميم مصرف لبنان الأساسي ذو الرقم 161 جاء في نهاية العام 2021 ليؤكّد أن الأمر سيكون دائماً للمركزي في إدارة الاقتصاد حتى تستيقظ مكوّنات الطبقة السياسية وتطلق مسيرة الإصلاح المطلوبة. وكأنّ مصرف لبنان استوعب خفايا السوق الموازية وقواعد اشتباك المحتكرين والمضاربين في الأسواق، فقرّر توظيف ما توافر له من إمكانيّات لتوفير السيولة لتسديد فواتير المصاريف التشغيلية للدولة مع الحدّ من الضغوطات التضخميّة وتأمين الحدّ الأدنى من الاستقرار في سعر الصرف وفي أسعار السلع الاستهلاكية.
الأسباب الموجبة وراء هذه الخطوة كان خروج لبنان من الأسواق المالية (لم يعد باستطاعة الدولة اللجوء إلى الدين لتمويل العجز) والانخفاض الحادّ، لدرجة الانعدام، في الإيرادات، فبات السبيل الوحيد لتمويل نفقات الدولة هو طباعة العملة ومع هذا أصبح همّ واهتمام المركزي معالجة الضغوطات التضخمية.
التعميم 161 أسّس لمجلس نقد (Currency Board) من دون الإعلان عنه رسميّاً. اليوم يحافظ مصرف لبنان على كتلة نقدية بالدولار يوظفها، أولاً لدعم الكتلة النقدية المطلوبة بالليرة اللبنانية لتسديد رواتب وأجور موظفي القطاع العام (الحلقة الأضعف في الاقتصاد الوطني حالياً)، وثانياً لتجفيف السوق من الفائض في الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية، وأخيراً توظيف جزء من الكتلة لتأمين بعض الدولارات للقطاع الخاص. ويتم "تدوير" (recycling) هذه الكتلة عارضاً وطالباً الدولار مقابل الليرة وفق ما تدعو الحاجة: يعرض الدولار من خلال منصّة صيرفة، ويطلبه في السوق الموازية، وهو اللاعب الأكبر لأنه يحمل الكمّ الأكبر من الأوراق النقدية. والعرض والطلب هذا يوظف ليس للتأثير على سعر صرف الدولار بقدر ما هو لضبط التضخّم، وتكريس الاستقرار النقدي، ولو حصل ذلك على سعر صرف مرتفع نسبياً.

الأهم أنه كان للتعميم 161 حصته في المساهمة بتمكين المستهلك، صاحب الدخل المحدود، من الصمود:
إذا أبقينا على راتب الـ1،000 دولار في الحسابات المصرفية (لولار) لموظف القطاع الخاص، و8 ملايين ليرة لموظف القطاع العام، والسماح لصاحب الدخل بالحصول على راتبه وفق أحكام التعميم 161 (بالدولار الفريش على سعر منصة صيرفة) يصبح له إيجابياته المتعدّدة:

1. لموظف القطاع الخاص: توأمة التعاميم 151 و161 يصبح الراتب 210 دولارات فريش على سعر 38،000 ليرة للدولار الواحد.

2. لموظف القطاع العام: لأن راتبه بالليرة، وبفضل التعميم 161، يصبح الراتب أيضاً 210 دولارات فريش، لأن قيمة راتب موظف القطاع العام والخاصّ هي ذاتها بالليرة.


3. ومن خلال السوق الموازية، يصبح الراتب بالليرة 8،845،000 ليرة على سعر الـ42،000 ليرة للدولار الفريش الواحد، أي إضافة 845،000 ليرة على القدرة الاستهلاكيّة من دون أن تحتسب هذه الإضافة عبئاً إضافيّاً على المصاريف التشغيليّة لمؤسّسة القطاع الخاصّ ولا على الخزينة العامة.
هذا الفارق يتحمله مصرف لبنان، وتداعيات هذا الفارق برواتب البعض هي على الجميع، لأن هذا الفائض هو إضافة على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وهناك تكلفة إضافية (ارتفاع في سعر صرف الدولار في السوق الموازية) لتجفيفها والحدّ من التأثيرات التضخمية.

هذه الضبابية المتعمّدة أنتجت ثغرات في احتساب التكلفة الحقيقية للنشاط (أو النشاطات) الاقتصادية أو/و في احتساب النمو او الانكماش الاقتصادي، بل هناك غموض، وهو أكثر من ضبابيّة، وسببه انعدام ثقة المواطن بالنظام الماليّ، وغياب الرقابة ساهم في تفاقم هذا الوضع. هذا الغموض أدّى إلى استحالة احتساب حجم الكتلة النقدية التي تساهم في دوران العجلة الاقتصادية، لأنّه من الصعب معرفة كميّة الأوراق النقدية المخزّنة في الصناديق الحديدية في المنازل والمكاتب، والكمية التي توظف في تمويل النشاطات الاقتصادية (الاستهلاك والمصاريف التشغيلية).

طباعة العملة يساهم في إنتاج ضغوط تضخميّة إذا تمّ توظيف مجملها في تحريك العجلة الاقتصادية، ولهذا يجب عدم احتساب الكمية المخزنة كجزء من الكتلة النقدية عند دراسة وتقييم التأثيرات التضخمية لطباعة العملة. لذا يضطر مصرف لبنان، من وقت لآخر، إلى استهداف الأوراق النقدية المخزّنة بالليرة عندما يرفع الضوابط عن طلب الدولار عبر منصّة صيرفة (لحاملي الأوراق النقدية بالليرة من دون حدود)، والمخزّنة بالدولار الفريش من خلال إنتاج سعر صرف مغرٍ للدولار في السوق الموازية. لهذا السبب، يجب إبقاء منصة صيرفة وتوظيفها حصرياً لصرف الرواتب والأجور لأن فتحها أمام حاملي الأوراق النقدية من دون حدود يشجع على التخزين والمضاربة وإحداث اضطرابات في سعر الصرف عوضاً عن التقلّبات في سعر الصرف التي هي من ضمن التوقّعات.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم