الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الآخرون: الأميركيّ غلين مارتين تايلور وأعماله الجريحة... الفنّ لا يشفي والألم يكشف عن إنسانيّتنا!

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
الفنّان الأميركيّ غلين مارتين تايلور.
الفنّان الأميركيّ غلين مارتين تايلور.
A+ A-
(نُطلق هذا الأسبوع عمود - "الآخرون" – وفيه نُسلّط الضوء على فنّانين من مختلف أنحاء العالم يروون قصصهم من خلال الفنّ على أنواعه.)
 
 
أشهر عدّة مرّت على المُقابلة الأولى مع هذا الفنّان الذي يروي الألم بأسلوب مُخمليّ، جارح يجعلك تتصالح مع الندوب التي نخفيها عادةً بكثير من الذكاء، لكي لا يرى أحد أننا في الواقع لسنا بخير. على الرغم من قدرتنا على الظهور أمام الآخرين بثوب الوقار المهذّب والكاذب. ابتسامة صغيرة تُزيّن وجهه، عادةً، في الصور القليلة التي يظهر فيها على حساباته الشخصيّة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ.
 
 
ولكنّه يُرفق الصور التي تُظهر أعماله الفنيّة الجريحة والمُتصالحة مع جراحها، بكلمات رقيقة تشي بالكثير من العواطف الصاخبة في نزواتها، تأتي على شكل، "الأجوبة لا تصلنا في الأيّام السهلة. اكشف عن روحك، بحقّ الجحيم. لماذا تعتقد إذاً بأنّك على قيد الحياة؟ في أحد الأيام، سيتوقّف قلبك عن الخفقان. قل لي، بحقّ الجحيم، ماذا تنتظر؟ اسمح. افتح صدرك واسمح".
 
وهذه الرقّة السريعة العطب. واستسلامه النبيل لضربات الحياة المُتكرّرة. واعترافه بأنّه في الحقيقة لم يعرف معنى الشفاء، مع أنّه بحث عنه في كلّ الأماكن. وعلى الرغم من توسّله بالفنّ ليُلوّن الندوب ويُعطيها إطلالة ساحرة.
 
الناس يرحلون. والموت "يغزل" خيوطه خلف أيّامنا بابتسامته العارفة. "منذ الطفولة، اكتشفت أنّ الفنّ هو الطريق الذي وجدتُ فيه القليل من التعقّل في عالم مجنون. وفي منتصف حياتي، في مرحلة تركتني وحيداً ومُحطّماً ومُشوّش الذهن يسكنني الاضطراب، قرأت ذات يوم عن الفنّ اليابانيّ الذي يحمل اسم (Kintsugi)"، كما يروي لي ذات مساء، غلبني فيه الألم في العاصمة الغارقة في الظلام والذكريات التي نادراً ما ترحل.
 
وحدهم الناس يرحلون.
 
 
أشهر عدّة مرّت على المقابلة الأولى مع الفنان الأميركيّ غلين مارتين تايلور. والحديث معه، وإن عبر الرسائل الإلكترونيّة، أصبح أكثر حميميّةً، واقتربنا بضع خطوات من البوّابة الحديديّة التي تتربّص خلفها رحلته الطويلة مع الشفاء. لا يُكثر الكلام.
 
يترك لك حُريّة التنزّه وسط حقول الألم التي زرعها أعمالاً فنيّة غاضبة، جميلة في انكسارها. وعُشّاق فنّه يشكرون اعترافه بالألم، وبالانكسارات. ملّوا من هؤلاء الذين يضربونهم بفُقاعات الذبذبات الإيجابيّة الكاذبة والمُدّعية.
 
اكتشف، إذاً، ذات يوم تبدّلت فيه رؤيته للألم، الفنّ اليابانيّ Kintsugi، الذي يستريح على إعادة تصليح الفخّار المكسور بواسطة سائل الطلاء المُغبّر والممزوج بمسحوق الذهب. "وإذا نظرنا إلى الموضوع من منظار فلسفيّ، يتعامل هذا الفن مع الكسر وإعادة الترميم كجزء من تاريخ وجماليّة الأشياء، عوضاً عن التعامل معه بخجل يدفعنا إلى إنكاره وإخفائه خلف قناع مزيّف".
 

يعود هذا الفنّ اليابانيّ الراقي إلى القرن الخامس عشر، عندما كان الحرفيّون يبحثون عن وسيلة جميلة لإصلاح السيراميك المكسور.
 
"ولكنّني، في فنّي، لا أستعين بمسحوق الذهب. أختار المواد التي تُعبّر بشكل أفضل عن العيوب والغضب الكامنة في الدراما التي يعيشها الإنسان قدره اليوميّ. وعوض الاحتفال بجماليّة هذه الكسور، أردتُ أن أعبّر عن الألم الذي يعيشه كلّ من عرف الانكسار يوماً. الألم النابع من الندوب الخام والجروح المفتوحة التي لا تلتئم أبداً".
 
 
وفجأة، أثناء تبادل الرسائل الإلكترونيّة خلال ليل بيروت الطويل والمُظلم حتى الظُلم، أروي له ما حدث معنا، ذلك المساء الذي يتعامل معه البعض وكأنّه "قصّة وصارت"، ولكنّه في الواقع، تسبّب في ذبح عائلات بكاملها. أخبره عن الندوب التي تسكنني إلى الأبد. يستمع إليّ ألمي بهدوء. لا يُجيب. وبعد بضعة أيّام، يكتب على صفحته الشخصيّة عبر "فايسبوك" عن امتنانه للعمل مع صحيفتنا ويُلقي التحيّة، بكلّ شجاعة، للعاصمة التي دمّرتها "نترات الأمونيوم". يُدرك جيداً أنّ رحلة الشفاء تتطلّب الكثير من التفهّم. وضرورة أن نُهدهد انكسارنا، مع أننا نعلم سلفاً أنّنا، في الواقع، لن نشفى.
 
 
"بعد اكتشافي، الفنّ اليابانيّ هذا، صرت أكسر بعض الأطباق التي كانت تملكها جدّتي عن أمّي لأستعملها في فنّي. وعندئذٍ وجدتُ صوتاً للألم الذي تتوارثه الأجيال، والذي ينتقل من الأهل إلى الطفل، ومنه إلى العالم. أستعمل المواد التي تعود إلى طفولتي، وأخرى من سنواتي اللاحقة التي تُشعرني بأنّها مألوفة بشكل غير مُريح. ربما كانت هذه الأشياء التي أستعين بها لإعادة تصليح الأشياء المكسورة مألوفة، بيد أنّها تُصبح غريبة من خلال الطريقة التي أستعين بها في أعمالي الفنيّة".
 
أحياناً، يستعين غلين بالفخار الذي يصنعه بنفسه قبل أن يكسره، "أكسر الفخّار الذي أصنعه في أستوديو خاصّ بهذا الفنّ بالقرب من منزلي، بواسطة مطرقة والدي".
 
 
غلين مارتن تايلور، لا يحتاج للسائل المذهّب ليُعيد تركيب ما دمّرته الحياة.
فهو يجد في الأسلاك الشائكة الخشنة، وسكاكين اللحام العتيقة الصدئة، وأدوات المائدة المُلطّخة، ما يحتاج إليه ليخلق من الألم والانكسار، أعماله الغاضبة التي يعلم سلفاً بأنّه يحتاج إليها ليشفى. ولكنّه، بطبيعة الحال، لن يشفى.
 
"أعمل أيضاً مع بكرات من الخيوط، كتلك الموجودة في سلّة خياطة أمّي. ولا أحاول أبداً أن أُصلح الأشياء المكسورة أو أن أُعيدها إلى ما كانت عليه. جلّ ما في الأمر أنّني أحاول أن أجد القليل من المعنى الجماليّ لكلّ هذه القطع المُحطّمة. هذه القطع التي تنتمي إلى عالم مُحطّم".
 
 
غلين مارتن تايلور توقّع في البداية، أن تُساعده الأعمال الفنيّة الغاضبة والنبيلة في غرابتها، في عمليّة الشفاء.
 
"ولكن الشفاء الذي توقّعته لم يأتِ. أعمالي لم تُعِدِ المعنى إلى هذا العالم المجنون. وهي بكلّ تأكيد لم تُساعد الجروح المفتوحة داخل روحي في الالتئام. ولكنّ الشفاء الحقيقيّ وصل من خلال التواصل مع الآخرين. تواصل الفنان وزائر أعماله، ومن خلال الاكتشاف بأنّني لست وحيداً في ألمي. أنا جزء من البشريّة. الشفاء وصل عندما اعترفت لنفسي بأنّ الألم جزءٌ لا يتجزّأ من التجربة الإنسانيّة. لم أجد العديد من الأجوبة من خلال أعمالي. وجدتُ المزيد من الأسئلة".
 
 
ولكنّ الأسئلة الآن تتمحور على الأمل والسلام الداخليّ والسعادة.
"لم أجد طريقة لأتفادى الألم والعذاب. ولكنّني تعلّمتُ أنّ ما فعلته بألمي أظهر إنسانيّتي".
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم