الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

ماذا يريد الغرب من غزة؟

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
غزة.
غزة.
A+ A-

في السياسة، كما في الاستخبارات، لا تتجلى الحقيقة في ما نرى ونسمع. فالدبلوماسية تقتضي أن تقول وتعمل ما يرضي الجمهور ويضلل المتعاملين. فترفع لواء الأخلاق مثلاً، وترتدي لبوس الأتقياء، وتستدعي المرجعيات العقائدية والوطنية والإنسانية، عندما يتطلب الحال، وتتجاوزها بكل بساطة عندما تقتضي المصلحة. ولا يختلف الأمر في المعاملات اليومية، فعندما نتكلم كلنا أصحاب مبادئ وعندما نعمل كلنا أصحاب مصالح.

تذكرت ذلك وأنا استعرض مواقف الحكومات الغربية من الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتدمير الشامل في غزة. الولايات المتحدة وحلفاؤها لم ينتظروا ساعة قبل إعلان تعاطفهم ودعمهم إسرائيل بعد الهجوم عليها في السابع من أكتوبر. ولكنهم تأخروا وتلكؤوا أربعة اشهر قبل أن يبدوا تعاطفاً خجولاً مع الجرائم ضد الإنسانية التي لم يسبق لها مثيل. ولم يجرؤوا على اتخاذ مواقف حازمة لتنفيذ إرادة المجتمع الدولي بوقف شامل ودائم للحرب على المدنيين في غزة.

والسؤال الذي يفرض نفسه، لماذا؟ وماهي المصلحة المبتغاة؟

قادني البحث الاستقصائي إلى قناعات أود مشاركتكم بها، وأرحب بمناقشتكم لها.

سياسة المستعمر الأبيض كانت وما زالت تقوم على مبدأ فرق تسد. ولذلك حرص الإنجليز على التفريق بين المسلمين والهندوس في الهند، وفرق البلجيكيون بين الهوتو والتوستي في روندا، والفرنسيون بين الطوائف في سوريا ولبنان، والأميركيون بين الأعراق والمذاهب في العراق و أفغانستان . ومكن المستعمر الأقلية من حكم الأغلبية، وحرض الأحزاب والجماعات المتمردة على الخروج على الأمة. وتبنى المعارضة الخارجية ودعم رموزها. ومكن الزعامات الموالية والحكومات الفاسدة.

وبعد خروج المستعمر من البلدان التي حكمها بالقوة، عاد ليحكمها بالسياسة نفسها، وبالهيمنة الاقتصادية والثقافية. وكلما استقر الحال في بلد وبدأت مشوار التنمية والاعتماد على الذات، عمل على تفوير الشعوب، والتغرير بالنخب، وإشعال الصراعات الداخلية والخارجية، حتى تنهار وتضعف وتلجأ مرغمة إلى طلب الحماية والرعاية، وتسلم مقدراتها للحكومات والشركات والبنوك الغربية.

رأينا ذلك في جنوب أميركا وأفريقيا وجنوب آسيا بقدر ما شهدناه في بلداننا العربية. فبكل منطقة في جنوب العالم، هناك بعبع من موالي الغرب يهدد أمنها الخارجي، ويقلق سلمها الأهلي. وعندما تستنجد بالغرب، تطوَّق بشروط مالية وانتهاكات سيادية خانقة،

وتُفرض عليها حلول جاهزة، تغرق الحاكم والمحكوم في دوامة الديمقراطية والحوكمة والإدارة الفاشلة. وتضع الشعب الجائع في مواجهة الحكومة المتقشفة.

الربيع العربي لم يكن ثورة شعبية خالصة. والمعارضة الداخلية والخارجية ليست وطنية مخلصة. والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني لم تكن صناعة محلية مستقلة. ففي كل تلك الأحوال كان الغرب متربصاً بتململ الشعوب من حكام أتت بهم ودعمتهم واشنطن ولندن وباريس وموسكو، مشعلاً لثورتها، وموجهاً لحراكها وبوصلتها.

الفوضى الخلّاقة لم تبدأ بكوندوليزا رايس، ولا بالخرائط الأوبامية لتقسيم المنطقة، وإنما بالقسمة الفرنسية الإنجليزية للورثة العثمانية وخرائط سايس بيكو في مطلع القرن العشرين. واستمرت عبر الحليف الصهيونى والوكلاء العجم، والعملاء العرب، من كل الطوائف والأديان، بما في ذلك الحركات الجهادية والمليشيات الإرهابية.

في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرّت ثمانية أعوام، كان الأميركيون وحلفاؤهم يزوّدون بغداد بالمعلومات الاستخبارية والإحداثيات الدقيقة لمواقع العدو، ويحثون على الدعم المالي الخليجي والسلاح الشرقي المصري. ويزودون طهران بقطع الغيار والذخائر لسلاحها الغربي عن طريق إسرائيل. وكلما مالت الكفة لصالح طرف، كثفوا الدعم للطرف الآخر حتى تستمر الحرب ولا تنتهي بهيمنة أحدهما.

هكذا تم استنزاف دول المنطقة وزيادة مبيعات السلاح الغربي وتكريس دور أميركا كحامٍ وحليف استراتيجي. وفي نفس الوقت، ساهم التعامل المزدوج مع طرفي النزاع في تحجيم النفوذ السوفياتي في منطقة الخليج. وفي المحصلة، أضعف الصراع وتداعياته جميع القوى التي يمكن أن تشكل خطراً على الكيان الصهيونى، وشق صف الوحدة العربية والتضامن الإسلامي اللتان سعت اليهما السعودية وأشقاؤها عبر الجامعة العربية، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي.

واليوم، بعد أن اوشكت سفينة العرب على الخروج من عاصفة "الربيع العربي" وحرب اليمن، أشعلت فرنسا مع عملائها حرباً أهلية في السودان، وشرعت إسرائيل في تنفيذ مخططها المعلن لتفريغ غزة من سكانها، ثم الضفة وجنوب لبنان. وهكذا تستكمل المرحلة الأولى من دولتها التوراتية من البحر إلى النهر. وتؤمن حدودها الغربية بمنطقة مفرغة من البشر والخطر. وتستعد لاختراق المحيط العربي والإسلامي بتفويض ودعم من أميركا والغرب لاستكمال مشروع التشتيت والتفتيت والهيمنة.

إلا أن المحاولة هذه المرة تفشل أكثر مما تنجح. فالأمة العربية لم يعد فيها عملاء مزدوجون يلعبون دور الثائر، الموحد، المحرر، ويتآمرون في الخفاء مع الاعداء. فقد أسقطت المؤامرات السابقة أو أضعفت زعامات محور الممانعة والمماتعة. وبقي حكماء العرب في دول الاعتدال التي نجت بتكاتف شعوبها أمام عواصف الاقتلاع والتغيير، ليديروا بدهاء معركتهم القانونية والدبلوماسية والإعلامية مع الحلف الصهيوني.

كما أن الشعوب التي شهدت مآلات الثورات واكتوت بنارها، وتلك التي لم تنخدع بها أصلاً، تشكلت لديها مناعة جينية ضد فيروساتها. فبدلًا من الخروج على الحكام نصرة لغزة، توجهت لدعم الأشقاء بالتبرعات والإعلام الجديد.

وفي المقابل، خرجت شعوب الغرب ومنظماتها الحقوقية وإعلامها تعاطفًا مع الحق الفلسطيني ليس في غزة فقط، ولكن أيضاً مع حل الدولتين. وبدأت في مراجعة السردية الصهيونبة وأسطورة الضحية المادية والممارسات الوحشية منذ قيام إسرائيل.

وهكذا وجدت تل أبيب، ومعها واشنطن ولندن والعواصم الحليفة، نفسها في عزلة غير مسبوقة. فالرأي العام الدولي والمحلي انقلب عليها. والأجيال الجديدة التي لم تغسل عقولها الدعابة الممنهجة لم تعد ملتزمة حتى بحق إسرائيل في الوجود. والإعلام الجديد (الذي استخدم في تفوير العرب) قلب السحر على الساحر فتجاوز فلاتر الإعلام التقليدي ووصل إلى جمهور أوسع وبشكل مباشر، مع مساحة كونية مفتوحة لا يصلها مقص الرقيب للتواصل وتبادل المعلومات.

ملالي تل ابيب وطهران وقعوا في الفخ الذي لطالما تفادوه، المواجهة المباشرة بينهما، والمقاضاة في محكمة الرأي العام الدولي، وخسروا. وحكومة نتنياهو انزلقت في مستنقع يستنزف كل أرصدتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وليس أمامها للنجاة من السقوط المدوي والمحاسبة في الداخل والخارج إلا انتصاراً لا لبس فيه باستعادة غزة بلا حماس، في الحد الأدنى، أو بلا سكان بالحد الأعلى. إلا أن صمود الشعب الفلسطيني ورفض الحكومات العربية حل التهجير والتعامل بحكمة ودهاء مع التداعيات يطيل عمر الأزمة ويفاقم خسائرها.

أما الحراك العربي الإسلامي الذي تقوده السعودية فقد كسب تضامن الأمة وتعاطف العالم واحترام العواصم والمؤسسات الدولية. واستطاع أن يحاصر إسرائيل وحلفاءها ويعزلهم ويقلب الطاولة عليهم عالمياً وداخلياً. وهم ايضاً باتوا أمام خيار صعب، فإما أن يطبقوا القانون الدولي الذي اعتسفوه ضد روسيا، أو يخسروا ما تبقى من مصداقيتهم وقيادتهم الأخلاقية حتى أمام شعوبهم.

وفي النهاية، ستخضع إسرائيل وتقبل بالهدنة الإنسانية، وبالمسار السياسي، وستقبل حماس والفصائل المسلحة بالانسحاب من غزة، ويلتزم حزب الله بقواعد الاشتباك الجديدة، ويتوقف القصف الحوثي على السفن التجارية. وسيتكفل المجتمع الدولي والعرب بفاتورة إعادة إعمار غزة.

وسيبقى على إسرائيل أن تواجه شروط التطبيع الذي تتفاداها منذ تأسيسها: القبول بالمبادرة العربية للسلام بالانسحاب إلى حدود 67 وعودة اللاجئين وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس. وهو، بتصوري، من سابع المستحيلات. وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

‏@kbatarfi

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم