في 6 آب (أغسطس) الماضي، شنت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً على منطقة كورسك الروسية واحتلت مساحة من الأراضي تقرب من 1300 كيلومتر مربع بحسب ما قاله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد نحو شهر على العملية. لكن بعض التحليلات الغربية وضعت المساحة المحتلة عند نحو 1000 كيلومتر مربع. في الوقت نفسه، حدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأول من تشرين الأول (أكتوبر) موعداً نهائياً لاستعادة المنطقة، بحسب تقارير غربية وردت في "فوربس" و"لوموند"، و"آر بي سي" الأوكرانية.
هل ثبُتت الجبهة؟
بحسب خريطة نشرها "معهد دراسات الحرب" في 30 أيلول (سبتمبر)، لا تزال أوكرانيا تسيطر على القسم الأكبر من الجيب الذي احتلته في آب (أغسطس). وتركزت المساحة التي حررتها روسيا في القسم الغربي منه. كذلك، استطاعت كييف منذ نحو أسبوعين شن هجوم مضاد التفافي من نقطة حدودية ثانية إلى الشمال متقدمة باتجاه غلوشكوفو. كان الهدف المفترض محاصرة عدد كبير من القوات الروسية بين غلوشكوفو وكورونيفو، لكن تبين أن التقدم الأوكراني في الجيب الصغير الجديد بطيء. وفي الجيب الأساسي، يتبادل الجيشان الروسي والأوكراني بعض المساحات الهامشية من دون أن يؤثر ذلك كثيراً على الصورة الكبرى.
وفقاً للمراقب الفرنسي لتفاصيل الحرب الروسية - الأوكرانية ماسيت إسكوتير، بلغت المساحة الإجمالية التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية داخل روسيا، حتى 30 أيلول (سبتمبر)، نحو 800 كيلومتر مربع. وأضاف المراقب نفسه أن الجبهة استقرت إلى حد كبير منذ 10 أيام بسبب توازن أعداد القوى المتحاربة هناك، والتي قدرها بنحو 40 إلى 50 ألف مقاتل لدى كل من الجانبين.
ويعتقد آخرون أيضاً أن أوكرانيا مهيأة للبقاء في تلك المنطقة إلى أجل غير محدد. المحلل العسكري في "معهد هدسون" جان كاساب أوغلو يرى أن تبادلاً كبيراً في الأراضي المحتلة غير مرجح حالياً وأنه بات "أكثر وضوحاً تخطيط القوات الأوكرانية المسلحة للبقاء في المنطقة حتى نهاية الحرب".
ضربة لروسيا
مع بداية التوغل الأوكراني، قال مراقبون إن بوتين "لم يبتلع الطعم" الذي نصبته أوكرانيا لدفعه إلى سحب بعض قواته من الجبهات الأكثر اشتعالاً، بخاصة في دونيتسك، لدحر القوات الأوكرانية. أتى ذلك بعدما لاحظ مراقبون أن التقدم الروسي نحو بوكروفسك وفوليدار وتوريتسك بات أسرع عقب العملية.
مع ذلك، كان واضحاً أن بوتين لم يكن بإمكانه تجاهل ما يحدث على الأراضي الروسية إلى ما لا نهاية. من جهة، كانت روسيا تشهد دخول أول دبابات أجنبية أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية. وما ضاعف وقع هذه الضربة الرمزية على حكم بوتين أن السردية تحولت من إسقاط كييف في غضون أسابيع إلى طرد قوات كييف من الأراضي الروسية في أسابيع. وهناك أيضاً ما يتصل بتأثير نفسي أوسع نطاقاً.
6/6 Russian forces recently advanced in Glushkvosky Raion, Kursk Oblast, and Ukrainian and Russian forces recently advanced within the Ukrainian salient in Kursk Oblast.
— Institute for the Study of War (@TheStudyofWar) September 30, 2024
Full report: https://t.co/VScbmkfiwY pic.twitter.com/mxmAS3jUhF
سبق أن نقلت أوكرانيا الحرب إلى الداخل الروسي عبر المسيّرات والصواريخ التي ضربت منشآت عسكرية ونفطية. لكن هذه المرة، نقلت أوكرانيا الحرب عبر احتلال بري. بنتيجة ذلك، نشأت موجة نزوح شملت نحو 200 ألف روسي حملوا معهم أنباء الهجوم إلى مناطق أبعد عن الحدود. ما كان حرباً يسمع عنها الروس عبر الإعلام، أصبح حرباً يسمعون عنها مباشرة من النازحين الذين اتجهوا صوب العمق الروسي.
على صعيد ثالث، يمكن أن يكون هجوم كورسك قد أبطأ قليلاً التقدم الروسي في دونيتسك، خصوصاً تجاه بوكروفسك. بالرغم من كل ما سمعه المراقبون عن تحذيرات من اقتراب سقوط بوكروفسك، لم يحدث هذا الأمر. صحيح أن البطء في التقدم قد يُعزى إلى أكثر من سبب، من بينها توسيع الجيب العسكري وتطويق بعض المدن بدلاً من مهاجمتها بشكل مباشر، لكن الهجوم على كورسك يبقى أحدها. فقد لاحظت "سي أن أن" أن التباطؤ بدأ يحصل في الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر). لكن في الوقت نفسه، ينبغي عدم المبالغة في الرهانات على مفاعيل نجاح أوكرانيا في هجومها واحتفاظها حتى الآن بالقسم الأكبر من الجيب الروسي الذي سيطرت عليه.
لماذا؟
على الصعيد الداخلي، امتص الكرملين الهجوم. كتب مدير "المرصد الفرنسي الروسي" أرنو دوبيان في "لوموند ديبلوماتيك" أنه يمكن تشبيه هجوم كورسك بضربات معنوية سابقة تلقاها الروس في الميدان. من بين تلك الضربات، تمرد بريغوجين وهجوم أوكرانيا المضاد والناجح في خريف 2022. "أولاً أتت الصدمة، ثم الغضب وفي نهاية المطاف تقبل الوضع الطبيعي الجديد".
وفي سياق غير بعيد، لم يكن الفشل في تلبية الموعد النهائي الذي حدده بوتين (إذا صحت التقارير) لتحقيق هدف استعادة كورسك هو الأول من نوعه. سنة 2022، أراد الرئيس الروسي السيطرة على مدينة ماريوبول بحلول يوم النصر الذي تحتفل به روسيا في التاسع من أيار (مايو). لكن جيشه لم يستولِ عليها إلا في العشرين من الشهر نفسه. وحدث أمر مماثل سنة 2023 حين رغبت روسيا بالسيطرة على مدينة باخموت قبل 9 أيار (مايو)، لكن ذلك تأجل أيضاً نحو أسبوعين. بهذا المعنى، ليس الفشل في استعادة كورسك كارثياً.
ولم يتمكن الهجوم على تلك المنطقة، بالرغم من إظهاره قدرة نسبية لأوكرانيا على الاحتفاظ بالمبادرة، من تغيير تفكير الحلفاء الغربيين بالتخلي عن حذرهم من التصعيد الميداني خوفاً من رد الفعل الروسي، كما ذكرت مؤخراً "إنترناشونال بوليتيك كوارترلاي"، وهي مجلة ألمانية.
في النهاية، لا تزال نتائج هجوم كورسك تُصنف في الخانة الرمادية. لم يستطع بوتين دحر القوات الأوكرانية من كورسك لغاية اليوم - بصرف النظر عن وجود موعد نهائي من عدمه - وقد لا يستطيع ذلك قريباً. لكن من غير المرجح أن تؤثر هذه النتيجة على المشهد الأوسع لتوازن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهو توازن مختل نسبياً في الوقت الراهن لمصلحة موسكو.