بينما كان قرص الشمس يتوسّط سماء مدينة درنة في شمال شرق ليبيا، انهمك فتحي الحصادي مع زملائه المزارعين في الاعتناء بمزرعته التي بدأت تكتسي بالأخضر. في جوانبها، كان عشرات العمال يعتلون آلات ثقيلة لتعبيد الطريق وتسويتها، فيما يعمل فريق ثالث من البنائين على إنهاء أساسات صلبة تقوم عليها مساكن ترتفع دورين.
بدا هذا المزج بين الألوان في صورة واحدة رسالة واضحة: إن المدينة التي تتوسط الجبل الأخضر، وتطل على المتوسط، تتمسك باستعادة حياتها قبل أيام من الذكرى الأولى لمأساة الفيضان الذي صاحب الإعصار "دانيال".
خضروات رقيقة!
كانت درنة من أشهر مدن شرق ليبيا في زراعة "الخضروات الرقيقة"، مثل الكسبر والكرفس والبقدونس والنعناع والحبق والبصل الأخضر والكرنب. كانت تُسمى فعلياً "مزرعة ليبيا"، إذ كان إنتاجها يُنقل براً إلى معظم المدن الليبية، قبل أن يجرف "دانيال" مساحات شاسعة من أراضيها، ليدمر مزارعها فيحرم البلاد من ثمارها ومن ثروتها الحيوانية التي تمثل نحو 40% من إنتاج ليبيا.
اليوم، "المدينة عازمة على استعادة مكانتها الزراعية"، يقول الحصادي لـ"النهار العربي" وهو يجلس القرفصاء وسط حقله لنزع الحشائش الضارة. يشير بسبابته إلى مزارعين مصريين يجاورون الليبيين في الحقل، أتوا بالمئات من صعيد مصر إلى مزارع درنة قبل أكثر من 10 سنوات، "فاستعنّا بخبرتهم الزراعية الواسعة، وبعضهم تملّك أراضيَ زراعية واستقدم عائلته، وها هم معنا، نعمل فريقاً واحداً لتستعيد المدينة أخضرها الشهير".
ليبيا بلد صحراوي عموماً، لكنها تحتضن غابات الجبل الأخضر في الشمال الشرقي، تشطرها أودية مدينتي درنة والبيضاء، حيث يصل امتداد السلسلة الجبلية من بنغازي إلى درنة مسافة تصل إلى 350 كيلومتراً حتى ساحل المتوسط. كما تغطي منطقة الجبل الأخضر مساحة 943 ألف هكتار، فيما تشكل الغابات نصف هذه المساحة، وفقاً للهيئة العامة للزراعة والثروة الحيوانية والبحرية.
نأكل مما نزرع
بحسب الحصادي، نتاج درنة الزراعي عالي الجودة، "بفضل خصوبة تربتها ووفرة مائها المنخفض الملوحة، ونتيجة اعتماد المزارعين هنا على التسميد الطبيعي من دون تدخل كيميائي، في زراعة الخضروات الرقيقة، كذلك في زراعة البقوليات والخضروات والفاكهة، حتى كان في المدينة غابات شجرية ونخيل".
كل شيء طبيعي في درنة. فالناس هنا يأكلون مما يزرعون، "ولهذا، للطعام على موائدنا طعم خاص"، كما يقول الحصادي، مذكراً بأن درنة كانت تمد ليبيا بنحو 50% من إنتاجها الزراعي والحيواني، "وقد بقيت كذلك طويلاً، تعاند الزحف العمراني الذي حرمها مساحات خضراء شاسعة في السنوات العشر الماضية، حتى حلّت بنا كارثة ’دانيال‘".
يطالب الحصادي السلطات في ليبيا بوضع حدٍّ لتناقص المساحات الزراعية، ودعم المزارعين ومدهم بالمعدات الحديثة للزراعة وحفر الآبار، ونشر التوعية بوسائل الزراعة الحديثة من خلال دورات دراسية وورش عمل ميدانية، "فإن تمّ ذلك، تعود درنة لاحتلال مكانتها المميزة على الخريطة الزراعية الليبية والأفريقية، وتستعيد قدرتها على تصدير أصنافها الخاصة من ’الخضروات الرقيقة‘ الغالية الثمن إلى دول الجوار وإلى جنوب أوروبا، فترفد ميزانية ليبيا بالعملة الأجنبية".
معاناة ستطول
ويعقب سلمان عزوز، وهو تاجر خضروات وفاكهة بمدينة طبرق بشرق ليبيا، على ذلك قائلاً لـ"النهار العربي": "خلال الشهور الأولى التي أعقبت ’دانيال‘، توقفت حركة النقل من درنة إلى مدن شرق ليبيا بسبب انهيار الطرق الرئيسية وتضرر المساحات الزراعية، لكن هذا الأمر تغير في الشهور الأخيرة".
ففي صباح كل يوم، تذهب سيارات النقل من مدن الشرق الليبي إلى الجبل الأخضر، وخصوصاً درنة والبيضاء لتعود محملة بمحاصيل الخضار والفاكهة، "لكن الطرق غير ممهدة بالكامل بعد، ما يؤخّر حركة المرور ويعطّل السيارات"، كما يقول عزوز، مطالباً السلطات بتعبيد الطرق الرئيسية لتسهيل النقل الزراعي.
ووفق دراسة للمركز الأوروبي للبحوث المشتركة المتخصص في تعقب حالة الزراعة، صدرت في أواخر العام الماضي، قد تعوّض العائدات الإيجابية في مناطق شمال شرق ليبيا أو ما يُسمى "إقليم برقة"، تدني مستوى المحاصيل في إقليم طرابلس. لكن، في ظل المتغيرات المناخية الطارئة عقب إعصار "دانيال"، فإن المنطقة المعتمدة على المياه الجوفية وسقي المحاصيل الزراعية من الأودية ستعاني مدة أطول بسبب تسرب مياه الصرف الصحي إلى الآبار.
وكان تقرير أممي قد حذر في منتصف العام الماضي من تأثير التغيرات المناخية المتطرفة على المواسم الزراعة في ليبيا، إذ تسببت في تخلي الكثير من المزارعين عن هذه المهنة لتأمين لقمة العيش بسبب الخسائر الناجمة عن الجفاف والتصحر وأزمة الكهرباء، في مقابل غياب دعم الحكومات المتعاقبة وغياب التأمين.