لا تزال خطوة مصادقة البرلمان المغربي على "قانون المسطرة المدنية" الجديد، الذي قدمته وزارة العدل، تتصدر واجهة النقاش العمومي في المغرب، في ظل غضب رجالات العدل والأحزاب السياسية والنقابات المتصاعد، إذ يرفضون كلهم ما وصفوه بـ"المقتضيات الانتكاسية والرجعية"، ما دفع راشيد الطالبي العلمي، رئيس المؤسسة التشريعية، إلى إحالة مشروع القانون إلى المحكمة الدستورية لتقول رأيها فيه، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
وقد أغضب تمرير مشروع القانون الرقم 02.23، المتعلق بـ"قانون المسطرة المدنية"، في الغرفة الأولى للبرلمان، المحامين بسبب تضمّنه "تراجعات ومساساً خطيراً وغير مسبوق بعدد من المقتضيات الدستورية، وضربه حق المواطن المغربي في اللجوء إلى القضاء ودرجاته"، وهي اتهامات تسوقها المعارضة السياسية والمحامون والمفوضون القضائيون.
احتكام للدستور
حين قرر الطالبي العلمي تفعيل الرقابة الاختيارية على دستورية القوانين انسجاماً مع صلاحيات المؤسسة التشريعية التي يكفلها دستور 2011، وإحالة مسودة مشروع القانون إلى المحكمة الدستورية، استند إلى أحكام الفصل 132 من الدستور، الذي يقول: "يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضواً من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور". وبناءً عليه، فإن المحكمة الدستورية "تبت في الحالات المنصوص عليها في الفقرتين الثانية والثالثة من الفصل 132، داخل أجل شهر من تاريخ الإحالة، غير أن هذا الأجل يُخفض في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام، بطلب من الحكومة".
هذا الإجراء سابقة دستورية وبرلمانية أولى في تاريخ المملكة المغربية. ففي العقود الماضية، لم يبادر رئيس مجلس النواب في أي وقت إلى طلب تصريح بمطابقة قانون ما لدستور البلاد، فيما تصوّت الأغلبية البرلمانية عموماً على مشاريع القوانين، فيمرّ مشروع القانون أو يُردّ.
أربعة اعتبارات
يقول أستاذ القانون الدستوري عمر الشرقاوي لـ"النهار العربي" إن إعلان رئيس مجلس النواب تحريك الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور "مبادرة ذكية سياسياً ودستورياً لأربعة اعتبارات".
بحسبه، الاعتبار الأول أنه سينقذ سمعة البرلمان من مزاعم التواطؤ مع الحكومة لتمرير نص قد يحمل شكوكاً بعدم دستوريته؛ والثاني، سينقذ الحكومة من الاتهامات التي طال مشروعها بكونه غير دستوري، وهذا من اختصاص القاضي الدستوري الذي سيحدد توجهه من المشروع بناءً على ما تتوفر له من قناعة دستورية؛ والثالث، سيؤمن التفاعل الإيجابي والمؤسساتي مع موقف هيئات المحامين التي أطلقت منذ إحالة المشروع على البرلمان وابلاً من التشكيك في دستورية بعض مقتضياته مشروع المسطرة المدنية. فما دامت قرارات المحكمة الدستورية نهائية غير قابلة للطعن، فسيكون لقراراتها بالمطابقة أو عدم المطابقة للدستور مفعول الاطمئنان تجاه باقي المؤسسات الدستورية، وينص الاعتبار الرابع على طمأنة المواطن (المتقاضي) إلى صدقية القانون الذي ينظم كل صغيرة وكبيرة في عملية تقاضيه داخل المحاكم.
سيكون لقرار المحكمة الدستورية أثره الإيجابي على الأمن القانوني الذي يجعل من مقاصده الأولى حماية المراكز القانونية للمتقاضين، "لذلك، ينبغي ألا يخاف أحد أو يتوجس من إحالة المشروع على المحكمة الدستورية، فلها وحدها دون غيرها حصرية إضفاء ستار الدستورية على القوانين التي تحال عليها، اختيارياً أو إجبارياً"، كما يقول الشرقاوي.
تراجعات خطيرة
من جانبه، اعتبر النقيب الحسين الزياني، رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أن مقتضيات مشروع "قانون المسطرة المدنية" تتضمن تراجعات خطيرة، مشدداً على "ضرورة امتثال مشاريع القوانين لخلاصات وأهداف التقارير الاستراتيجية للمملكة والمقتضيات الدستورية والخطب والرسائل الملكية في بناء المنظومة القانونية وإصلاحها".
وقال الزياني لـ"النهار العربي" إن بعض مقتضيات مشروع "قانون المسطرة المدنية" تقلص من الحقوق الدستورية، "ويتعلق الأمر بمبدأ المساواة أمام القانون، ودرجات التقاضي، والحق في التقاضي، وحماية منظومة حقوق الإنسان، والسند في ذلك الفصول 118 و120 و121 من دستور 2011"، مشيراً إلى أن إحالة مشروع "قانون المسطرة المدنية" إلى المحكمة الدستورية يتماشى مع مطالب المحامين الذين أبدوا مخاوفهم من أن بعض مقتضيات المشروع قد تكون غير دستورية، "وبعضها قد لا يكون مخالفاً للدستور، لكنه لا يصب في مصلحة العدالة"، بحسب الزياني الذي وصف خطوة رئيس مجلس النواب بأنها "مهمة في سياق الحفاظ على الدستور وحماية البناء القانوني للبلاد".
دمج الأحكام
صادقت الغرفة الأولى في البرلمان المغربي في تموز (يوليو) الماضي على مشروع القانون الرقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية، الذي ظفر بموافقة 104 نواب، ومعارضة 35 نائباً، من دون تسجيل أي امتناع، بعدما قبلت الحكومة نحو 321 تعديلاً على مشروع القانون، بنسبة تُمثل 27 في المئة من مجموع التعديلات التي تقدمت بها فرق الأغلبية والمعارضة بالغرفة الأولى، وفق ما أكده وزير العدل عبد اللطيف وهبي.
وقد شدد وهبي على أن هذا القانون يصبو إلى إرساء قواعد الاختصاص النوعي على مبدأي وحدة القضاء والتخصص، "بملاءمة قواعد الاختصاص النوعي مع القانون الرقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، ودمج جميع الأحكام والنصوص القانونية الخاصة بكل من القضاء الإداري والقضاء التجاري وقضاء القرب، فضلاً عن نسخ المقتضيات المتعلقة بالغرف الاستئنافية بالمحاكم الابتدائية، تبعاً لكونها حذفت بمقتضى قانون التنظيم القضائي، وتعزيز دور القضاء في ضمان حسن سير العدالة، والارتقاء بمستوى أدائها، من خلال تبسيط المساطر والإجراءات القضائية".
احتجاج حقوقي
تحت قبة البرلمان، وعد وزير العدل بأن مشروع القانون يضمن الحماية القانونية الكاملة لحقوق المتقاضين وتحقيق النجاعة، والارتقاء بمستوى الخدمات القضائية من خلال إعطاء القاضي دوراً إيجابياً في تدبير سير الدعوى، وتعزيز صلاحياته تسهيلاً لمهمة الفصل، فضلاً عن تقوية الحق في الدفاع من خلال تأكيد دور المحامي على مستوى تمثيل الأطراف أمام القضاء حتى في حالة الدعاوى التي تطبق فيها المسطرة الشفوية.
في مقابل ذلك، خرج المحامون إلى الشارع محتجين بغضب كبير على تمرير هذا القانون "النشاز والرجعي" وفق تقديرهم، متوعدين الحكومة بمزيد من التصعيد. وندد نادي المحامين بالمغرب بما وصفه "المقاربة الأحادية الجانب" لوزارة العدل في التعامل مع مشروع القانون، متهمين وهبي بتعمد افتعال صدام مجاني غير مبرر بين الدولة والمحامين، ومحاولة جرهم إلى صراع سياسي مع الدولة، فيما لا يتجاوز الأمر مطالب بتعديلات تشريعية.
ويشدد الزياني على أن هدف أصحاب البدلة السوداء "لم يكن يوماً إخضاع الدولة أو الصراع معها كما يتم الترويج له، بل إن المحامين أول من يتشبث بثوابت الدولة المغربية ويساهم في كل الأوراش الكبرى التي أرسى دعائمها الملك محمد السادس منذ ما يربو عن ربع قرن".
مسألة الوكالة
ومشروع قانون المسطرة المدنية، وفق محامي المغرب، خلق غطاءً قانونياً لممارسة السمسرة في المحاكم من خلال ما يسمى "الوكالة"، وهذا يتناقض مع ورش تخليق القضاء والمحاماة ومنظومة العدالة، إذ سيفتح الباب أمام السماسرة والمتطفلين فيلجون ردهات المحاكم، فالمادة 76 من مشروع القانون نصت على أن تقديم الدعوى أمام محاكم الدرجة الأولى يتم بمقال مكتوب يودع بكتابة ضبط المحكمة، ويكون مؤرخاً وموقعاً من المدعي أو وكيله أو محاميه، حيث جاء مفهوم الوكيل مبهماً، ما يفتح الباب لتدخل الأغيار في المساطر القضائية وتسهيل ممارسات الابتزاز التي يجب محاربتها.
ويتضمن مشروع قانون المسطرة المدنية بنوداً "تمنع المواطنين من حقهم الأساسي في التقاضي، من خلال فرض غرامات على من يتقدم بدعاوى يعتبرها القانون مبنية على سوء النية"، كما يقول الزياني، وهي إجراءات يقول محامو المغرب إنها تكرس الفوارق الاجتماعية، إذ تخدم مصالح فئة معينة على حساب محدودي الدخل الذين سيجدون أنفسهم ممنوعين من التقاضي.