
تعتبر الحضارة القبصية في تونس ومحيطها واحدة من أهم الحضارات القديمة جداً والتي نشأت في العالم القديم وكان مركزها في مدينة قفصة، أو قبصة التونسية بحسب التسمية القديمة. ومن تونس الحالية انتشرت في شمال أفريقيا والقارة الأوروبية واعتبرت الحضارة الأولى للإنسان العاقل. وبقيت بعض آثار هذه الحضارة في مدينة قفصة التونسية ومحيطها وفي بعض المناطق في شمال أفريقيا.
ويؤكد مؤرخون أن دورها كان بارزاً في توفير بيئة خصبة للحضارة القرطاجية، التي ظهرت بعدها بقرون طويلة جداً لتزدهر وتنمو وتسيطر على العالم القديم.
وتفيد الحفريات بأن هذه الحضارة ظهرت قبل 10000 سنة قبل الميلاد وتواصلت لما يقرب من ستة آلاف عام، وهو ما يعني أنها ظهرت في آخر العصر الحجري القديم وفي العصر الحجري الوسيط وفي العصر الحجري الحديث. وتعتبر منطقة شمال أفريقيا منطقة تمدد حضاري تونسي، سواء تعلق الأمر بالقبصيين أو بالقرطاجيين أو بالنوميديين، إذ تظهر الحضارات في تونس الحالية في غياب الحدود ثم تتمدد إلى الغرب الليبي والجزائر والمغرب حيث وجدت آثار للإنسان المشتاني الذي يعود إلى الحضارة القبصية، وذلك في مغارة تافوغالت.

بيئة حضارية و"حياة بعد الموت"
يقول أستاذ التاريخ التونسي منير بن سليمان في حديثه لـ"النهار العربي" إن الحضارة القبصية قديمة جداً وهي أول حضارة للإنسان العاقل اكتُشفت حتى الآن. ويؤكد أيضاً أنه خلافاً لما يروج من أنه تم تسجيل هذه الحضارة في لائحة اليونسكو كأقدم حضارة في تاريخ الإنسانية، فإن شيئاً من ذلك لم يحصل، وكل ما في الأمر أن البعض ينوون تسجيل موقع أثري يتعلق بالحضارة القبصية ويسمى هذا الموقع "المقطع" ويقع قرب سيدي عيش شمال مدينة قفصة. ويعود هذا الموقع الأثري الهام، بحسب بن سليمان، إلى العصر الحجري الحديث، أي إلى قرابة 7000 عام قبل الميلاد، ويتضمن الموقع أسلحة بدائية ورسومات ونحوتاً ومدافن تؤكد أن الإنسان القفصي أو القبصي في تونس ومحيطها كان يؤمن بالحياة ما بعد الموت ولديه طقوسه الخاصة في الدفن.
قراءة تاريخية مختلفة
ويضيف: "صحيح أن قرطاج هي أول دولة في شمال أفريقيا بالمفهوم الحديث للدول، وكانت متطورة جداً كجمهورية وسابقة لعصرها، لكن الحضارة في تونس الحالية أسبق من قرطاج، بل لعل مؤسسي قرطاج قد استفادوا من تطور حضارات سابقة ومن بينها الحضارة القبصية. وما كان يمكن لقرطاج أن تكون بتلك القوة والازدهار لو لم تكن في هذه البيئة الحضارية الخصبة السابقة لوجودها على الأراضي التونسية، سواء تعلق الأمر بالحضارة القبصية أو بالحضارات التي قامت حول شط الجريد في العصور الغابرة".
أطلق الإغريق على سكان شمال أفريقيا تسمية الليبيين أو اللوبيين، وأطلقوا عليهم أيضاً بمعية الرومان وعرب الحجاز تسمية البربر، فيما سماهم الفرنسيون الأمازيغ وأنشأوا لهم علماً خاصاً، لكنهم لم يسموا أنفسهم إلى اليوم. ووفق المتحدث، "يبدو بحسب أغلب علماء التاريخ والآثار أن سكان تونس وشرق الجزائر والغرب الليبي اليوم ينحدرون من الإنسان القبصي. وبالتالي فإن الإنسان القبصي في تونس هو الأصل في حضارة هذه البلاد، ومن امتزاج ثقافته بالثقافة الكنعانية في عصور لاحقة نشأت قرطاج وتميزت كثيراً عن غيرها تميزاً لافتاً، خصوصاً في زمن قوتها وازدهارها وتمددها على سواحل شمال أفريقيا وجنوب أوروبا".

"عقليات متحجرة"
من جهتها، تعتبر الإعلامية التونسية لمياء الشريف في حديثها لـ"النهار العربي" أن قصة تسجيل الحضارة القبصية في اليونسكو كأقدم حضارة في العالم التي راجت هذه الأيام "هي من نسج الخيال، لكن هذه الحضارة التي نشأت في قفصة التونسية ثم توسعت، هي إلى حد الآن الأقدم في العالم باعتبارها تعود إلى 7100 سنة قبل الميلاد. أما الحضارة السومرية في العراق فهي تعود إلى 3800 سنة قبل الميلاد، والحضارة الفرعونية بمصر ظهرت قبل 3300 سنة قبل الميلاد، بينما الحضارة الهندية عمرها قرابة 4600 سنة فيما عمر الحضارة الإغريقية 3800 سنة".
وتضيف: "ما يهم التونسيين اليوم ليس من هو الأقدم ومن هو الأحدث، بل هو تثمين هذه الحضارة العريقة والهامة التي عرفتها بلادهم ومنحها الأهمية التي تستحق في ظل عقليات متحجرة لا ترى وجوداً ولا هوية خارج الإطار العربي والإسلامي. حتى قرطاج رغم أهميتها لا تجد لنفسها مكاناً لدى هؤلاء الذين يعتبرون أن تونس ولدت مع مجيء الإسلام، وأن ما كان قبل ذلك التاريخ الفارق ليس سوى جاهلية وضرب من ضروب الكفر والإلحاد، وذلك على رغم التأثيرات البارزة والجلية لهذه الحضارات على حياتهم اليومية ومساهمتها الفاعلة في نحت شخصيتهم القاعدية".
وتلفت إلى ما قام به قسم ما قبل التاريخ بالمعهد الوطني للتراث مع نهاية سنة 2023 من حفريات في منطقة الماجورة ووادي الناظور من معتمدية السند بولاية قفصة، قائلة إنه "أمر محمود واعتراف ضمني بأهمية الحضارة القبصية، خاصة أن هذه الحفريات قد أدت إلى الحصول على معلومات مهمة جديدة عن هذه الحضارة والعصر الحجري الحديث في تونس".
وتختم الشريف بأن الحضارة القبصية "تبدو بحاجة إلى مزيد التثمين محلياً ودولياً باعتبارها موروثاً إنسانياً لا يعني فقط تونس بل الإنسانية ككل، خاصة أن دورها مهم جداً في توفير البيئة الخصبة والتمهيد لازدهار الحضارات اللاحقة ومنها الحضارة القرطاجية".
العلامات الدالة
الأكثر قراءة
المشرق-العربي
10/13/2025 6:21:00 AM
هذه أسباب الانقسام والخلاف في صفوف الحرس الوطني.
صحة وعلوم
10/14/2025 10:48:00 AM
وزارة الصحة: الإجراء المتخذ بحق "تنورين" يُلغى فوراً اذا اتخذت جميع الإجراءات الضرورية لجودة المياه
لبنان
10/13/2025 4:37:00 PM
توقيف شركة “مياه تنورين” مؤقتاً عن تعبئة مياه الشرب وسحب منتجاتها